تعيش قبيلتا غامد وزهران فيما بين الطائف وأبها من جبال السروات، وتميلان ذات الغرب نحو تهامة وذات الشرق نحو سهول السروات الشرقية، وتمتاز ديارهما بجمال الطبيعة، ورقة الجو، وعذوبة المناخ، وذلك عادة ما ينعكس على السكان بحسن الطباع وكريم الخصال. وفي أدب المنطقة تنوع في فنون الأدب شعراً وأمثالاً ورواية وحكمة مما يعبر عن ثقافة عريقة تظهر ملامحها جلية في آدابهم وعمارتهم وزراعتهم وكل ما يتصل بحياتهم. ولقد تحدثنا قبلا عن شيء من شعرهم ونضالهم وثقافتهم وفنونهم، وأود اليوم الحديث عن أمثالهم، فالمثل كلام موجز مكثف التعبير عميق البعد، سهل التناول عند مناسبة اطلاقه. والأمثال كما ورد لصاحب مجمع الأمثال «يجتمع فيها أربعة لا تجتمع في غيرها، إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية». وتحظى الأمثال لدى المجتمع بأهمية كبيرة فهم يستخدمونها في التوجيه والحوار شعرا ونثراً، عن قناعة بمضمونها واختصاراً للحديث، وتمهيداً للاقناع وقطع الاطالة في التعبير، ويعزز المثل توارثه، ويبعثه تجدد التجربة الإنسانية بما ينتج عنها من مثل أو حكمة. وللأمثال والحكمة مكانة لدى الأدب الشعبي لأنها مخاض تجربة سابقة ومتكررة في مناسباتها. فالقصائد التي تحفل بالأمثال والحكم تجد إصغاء من المتلقى وحرصاً على سماع هذه القصائد. وقل أن تخلو قصيدة شعبية من الأمثال والحكم في كل أغراض الشعر وذلك لترسيخ أفكار الشاعر والتعبير عن معاناته، ولهذا تكتسب الأمثال والحكم أدبيتها. والأمثال يتناقلها الناس ويولدون منها أمثالاً مطابقة أو مشابهة لها في التعبير موافقة لها في المعنى، حيث تفرض اللهجة المحلية سطوتها ليحكى المثل بلهجة أهل مكانه. علي السلوك رحمه الله ومن أمثالهم: 1- أدفع نص مالي ولا يرمى خيالي: والخيال هو الظل، ومثله الأثر. ومصدر هذا المثل كما يروى علي السلوك رحمه الله في كتابه: الموروثات الشعبية لغامد وزهران ج5 «أن شابا مر من جوار بيت، فرأى فتاة أعجبته فحرك شفتيه بما يدل على التقبيل، فأخبرت أهلها بما حصل من ذلك الشاب، فاجتمع كبار قريتهما، للنظر في شكوى أهل الفتاة وبعد مداولة الرأي اتفق الجميع على أن يرمى ظل هذا الشاب جزاء فعلته». هذه القبلة الهوائية اعتبرت تعديا على فتاة محتشمة داخل منزلها وجرأة من شاب في غير محلها. ولكن الحكم باطلاق الرصاص على ظل الشاب إساءة له، وحكم معنوي بتعديه وتشهير به، فلم يرض الشاب بالحكم وقال: «أدفع نص ما لي ولا يرمى خيالي» أو ظلالي على الأصح فدفع نصف ما يملك لأهل الفتاة، وانتهت الخصومة. والشيء بالشيء يذكر، يقال إن شابا تبع فتاة في البرية، لم يؤذها وإنما كان يطأ على مواطئ قدميها، فأخبرت الفتاة أهلها بذلك وقرر كبار الحي معاقبته، إذ توحي المتابعة والوطء بسوء خلق دون فعله، وانقسم الحي إلى فريقين، فريق يرى في تصرف الشاب سلوكا مشينا، وفريق يرى أن لا إساءة في فعله، وكان ينزل على الحي ضيف فأرادوا اختباره في الحكم فاستجاب على أن يكون حكمه مقبولا. فوافق كبار الحي على ذلك فقال: تضرب مواطئ أقدام الشاب بالعصا. وتم ذلك. هذه فراسة المجتمع الشعبي الأمي يبتكر قوانينه من ثقافته، ولا يهمل التجاوزات المادية والمعنوية دون عقاب. وهذا العقاب وإن وجد ساذجاً إلا أنه ذو قيمة معنوية وأدبية لا تقل عن العقاب المادي أو التعنيف. 2- اللي يمسح وجهه يستحي: يكثر مسح الوجه وقبض اللحية دلالة على الالتزام بأمر أو قول يتعهد بأدائه أو الصدق فيه ونحو ذلك، وغامد وزهران كما يروي أيضاً السلوك (المصدر نفسه) لهم فلسفة لتفسير مسح الوجه وحك الجبهة وحك مؤخرة الرأس، فهم يقسمون الرجال إلى ثلاثة: الأول: من يمسح وجهه بيديه فهو دليل على الكرم والنخوة. الثاني: من يحك جبهته فهو دليل أنه وسط وخير الأمور الوسط. الثالث: فإن قيامه بحك مؤخرة رأسه لهو دليل على لؤمه وبخله. فإذا طلبت من أحد طلباً فانظر ردة الفعل لديه من ملامح وجهه وتحريك يده أين يضعها. وهم يقولون: «اللي يمسح وجهه يستحي، واللي يحك جبهته فيها مغدا ومجي، واللي يحك قفاه لا يغدي ولا يجي». وأذكر أننا ذهبنا ذات يوم إلى مسؤول كبير نتظلم لديه من أمر إداري، فإذا به يحك مؤخرة رأسه قبل أن ينتهي محدثه من طرح التظلم، مما حدا به إلى الاختصار يقينا أن لا فائدة ترجى من المسؤول الذي بادر بالتمويه. 3- الرجال ثلاثة محارث: والمحارث هي مواسم الزراعة، وقياساً على عطائها وصفوا الرجال: 1- محرث الحِفحاف: لا يرقد مكان ما يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف، فذلك كامل الأوصاف. - حَذَر وإيثار وكمال. 2- محرث الثريّا: إن دعبته قال هيّا، وان ثار البندق ما تفيّا، وان حلق الضيفان ما تعيا. - موافقة ومبادرة وكرم. 3- محرث الدبراني: إن أهريته قام أهراني، وعظمه عن كل شي متواني، وان قمت قعد مكاني. - مُتطاوِل بليد خامِل. هذا المثل من البيئة تشبيه يستخدم في التربية وتقويم الرجال من خلال عطائهم المشابه لعطاء الأرض في مواسم الزراعة فالأول ممتاز والثاني جيد والثالث ضعيف لأن هذا الفصل غير مناسب للزراعة نباته ضعيف وانتاجه رديء. 4- العلمة شرحة الملفى: العلمة التعريف عند اللقاء. والملفى المقدم والملتقى، وشرحة اطمئنان وانفساح. هذا المثل من زمن كانت معرفة الناس لا تتجاوز محيطهم الضيق، وحينما كانت الخشية من الغرباء تدفعهم للحذر من بعضهم فوجبت العلمة وهي التعارف والأخبار عن المقدم والقادم والمستقبل ومحيطه، يظل المجلس (الملفى) قلقا من القادمين حتى يتم التعارف وهدف القدوم أو المسير فتنشرح صدور الضيوف والمضيفين، ويعمر المجلس بالحوار المريح. ونحن اليوم لسنا في حاجة إلى التفاصيل التي تتضمنها العلمة بقدر حاجتنا للتعريف بالأشخاص وأغراض حضورهم ليتم التفاهم والاستقبال في حدود الأغراض ومقام الحضور. وكان في الماضي لكل طرف عارفة يتحدث باسمهم ويقدمهم إلى الطرف الآخر وقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابق. وهذه العادة ليست حصراً على غامد وزهران بل في كل أنحاء الجزيرة العربية ومن لا يلتزم بها قد يعرض ماله للسلب إذا لم يفقد حياته. 5 – الثوب الأبيض أدنى ما دنّسه: ولأن البياض رمز النقاء والطهر لذا وجبت المحافظة عليه نقياً. والمثل دعوة للمحافظة على السمعة الحسنة مثل ما فعل رجل من أصحاب الفضل والذكر الحسن حين قال: إذا استعان بي الكريم أعطيته عونا له على كرمه ولتبقى سمعته نقية وحميدة، وإذا استعان بي اللئيم أعطيته لأتفادى لؤمه ولتبقى سمعتى نقية، أو ما معناه. والمثل يستخدم في التربية والتوجيه ومناسبات الإرشاد والنصح. وإن كان هناك مثل يؤكد أن الصورة الحسنة لا يدنسها تشويه حاقد، وهذا المثل هو: «السبَّهَ ما ترخي برأس الجيد والمدح ما يرفع برأس الدانى» 6- لاني مذلّه ولا مزلّة: كان عابرو السبيل والغرباء يمرون بالأحياء والمضارب في القرى والبوادي، فيعترضهم أهل الحي للاستضافة فيعتذرون بدعوى أنهم يقصدون أحداً آخر في الحي، فيصر المعترض على استضافتهم فإنه من العيب والذلة أن يتخطى الضيوف منزله، فيحتج بأنه غير مكان للذل والتجاوز إلى داخل الحي أو المضارب. ورحمة بمن هم في مقدم الحي وضع الجيران نظاماً لاستقبال الضيوف والتنسيق بين أهل الحي لاستقبال الضيوف باعتبار أنهم ضيوف الجميع. والعرب يعيبون من يلوذ بالمنعطفات في سكنه هرباً من الضيوف. 7- ما بخيل من بخل بماله: الكرم والجود ليس حصرا على تقديم الطعام والمال فإن الجاه والمكانة لها دور في الجود والمثل عندهم: «ما بخيل من بخل بماله، ما بخيل إلا من بخل بجاهه» والإمام الشافعي رحمه الله وضع زكاة للجاه. وهذا من مكارم الأخلاق ألا يتخلى مقتدر عن مساعدة محتاج إلى واسطة تعينه ولا تبخس حقوق الآخرين. وما أحوج زمننا لترسيخ هذا المثل. 8- ما يبني في الديرة إلا حصاها: وهذا المثل له أبعاد كثيرة في حياة الأمم، أقربها الحياة الزوجية وتغريب الأبناء وإخلاف القيم والمعتقدات والتوجهات، وأبعدها الإخلاص في النوايا والتخطيط للمستقبل بما يسلب كياناً لصالح كيان آخر. والبناء هنا شكلاً العمارة ونحن نرى الأبراج والحصون المعمورة من حجر المنطقة ما تزال قائمة مع أن ما أقيم من مواد مجلوبة قصير المدى مهما أضيف له من دعامات، فإنه يتآكل أو يصدأ نتيجة لتعرضه لظروف مختلفه عن طبيعة المصدر، ومعنىً الوفاق القيمي لمعاني الوطنية ورموز الملاءمة. 9- من رز سوق أمّنه: كانت المناطق المتجاورة تحدد مواعيد لأسواقها، ولأغراض التبادل التجاري يتم التنسيق بين المناطق لتحديد أيام الأسواق، وهذا الأمر يتطلب تأمين الطريق والبيع والحركة بين الأسواق، ولأنه لا دولة ترعى هذا المشروع، ولأن التضامن أساس الحياة الكريمة بين أبناء المنطقة، ولأن الأسواق تترتب على إقامتها مسؤوليات الحماية يتضامن أهل كل منطقة لتأمين أسواقها، محافظة على سمعة القبيلة أو القرية. ولما كانت الأمثال تضرب لأمر محدد فإنها تشمل أشياء كثيرة يرمز المثل لها مثل المشروعات العامة والخاصة بأن لا تكون إقامتها ارتجالية دون توفير حمايتها الأمنية والمعنوية واكتمالها من حيث المتانة والشمولية وتحقيق الأهداف على المدى القريب والبعيد. وأقرب مثال إقامة مبنى شاهق دون توفير مواقف سيارات أو مرافق صحية وخدمية مستقبلة فإنه يهدد بالتعديل والترقيع والمعاناة الدائبة. الأمثال والحكم عند غامد وزهران منها المقتبس من أمثال أخرى خضعت للتخريج المحلي الموافق لطبيعة الحياة في مجتمعها، ومنها ما كان نبتاً من واقع حياتهم. وفي الكتاب جهد جامع وباحث قدير، وفي الأمثال ملامح مجتمع جديرة بالدراسة والتعرف عليها. غلاف الكتاب