لسنا أمة حوار.. هذه قناعتي، لأن الحوار ثقافة تتأصّل من خلال المساواة بين الناس، وتوفر الحدّ الأدنى على الأقل من النوايا الطيبة بين طرفيه، وقبل ذلك الرغبة في الاحتكام لكل ما هو منطقي وموضوعي، وكل ما تستقيم به الحجة وينتصر به الدليل، في حين أن المجتمعات العربية التي نشأتْ في إطار صيغة الفرض والإملاء، والتي تعوّدتْ ألا تذعن للقناعة قدر إذعانها للخوف، لا يُمكن أن تستجيب بسهولة لفكرة الحوار الذي يستند على التكافؤ كأول شرط موضوعي. يتجلى هذا في أمور كثيرة، ويكفي فقط أن نلاحظ مثلا كيفية تربيتنا لأبنائنا حيث تطغى الأوامر والنواهي على أي صيغة تفاهم أخرى، ما يؤكد أن هذا العقل الذي تربى على هذا النمط السلطوي لن يتنازل طوعا بمجرد الانصياع لشكليات الحوار عمّا تجذّر وترسّب في أعماقه من رفض القبول بمسلمات الآخر أيّا كانت الحجة. (أنا كلمتي ما تنزلش الأرض) هذه جملة ترددتْ كثيرا في صياغة سيناريوهات الحوار في معظم الأفلام المصرية، وهي تشي بالكثير من الدلالات التي تُفضي لبتر النقاش حتى قبل اكتماله، وفي يومياتنا المحكية الكثير من العبارات التي تحمل ذات المعنى وذات الدلالة. أتذكر أن سالم بن حمّيش وصف العقل العربي بأنه عقل سجالي، بمعنى أنه لا يقبل الهزيمة بالتسليم للآخر حتى وإن تهاوتْ حجته، وقال : إن هذا العقل لا يسعه أن يُنصت لبعضه البعض، فهو يستخدم فترة مرافعة المحاور للتفكير في كيفية الإطاحة به، لا للتفكير فيما يقول أو اختبار حجته، وهذا ما يُفسّر كثرة المقاطعة، والتقاط الكلام من فمه للبحث بأي شكل وبأي طريقة عن السبيل لإدانته، وربما استبدّ به الانفعال حينما تتهافتْ حجته ليستخدم ما لا يجوز استخدامه كالشتائم والاتهامات وقد يصل الأمر إلى توظيف زجاجات الماء والكراسي والعضلات كلغة حوار إضافية، لذلك وفي سياق حواراتنا المتتالية فيما يتصل بالفكر المتطرف، والتي لا أعتقد أنها أنجزتْ الكثير حتى الآن، أتساءل : لماذا لا نعمد إلى المزاوجة ما بين الحوار والمناظرة، لأن ما نحتاج إليه كما أتصوّر هو تفكيك هذا الفكر المتطرف، وتفكيكه لا يُمكن أن يتمّ إلا بتسييل جمهوره ومريديه، لأن أصحاب هذا الفكر إنما يستمدون قوتهم من ذلك الجمهور الذي يضعهم على صهوة الفروسية، ثم لأن معظم سدنة هذا الفكر لا يُريدون أن يظهروا أمام أتباعهم بمظهر المهزوم والمنكسر، وقد تأخذهم العزة بالإثم أمام مذاقات الرمزية وغواية النجومية، ونكهة الشعور بالفروسية، ليصبحوا أكثر تشددا وتمسكا بمواقفهم، طالما أنهم سيجدون في النهاية من يُصفق لهم، ويُضفي عليهم أعز الألقاب. الطريق الوحيد في تقديري أمام هذه العقلية المأزومة التي تظل تشكك في نوايا المقابل وتخوّنه لا لشيء إلا لأنه اختار ألا يكون في صفها، هو طريق المناظرة، لأن الحوار عادة يكون بين طرفين تتوفر لديهما كل النوايا الحسنة للوصول إلى الحقيقة والحلول، وهذا غير متوفر الآن مع أصحاب الفكر المتطرف الذين لا ينفكون عن الزج بالتهم لكل من لا يقف في صفهم، وشيطنة أفكاره، ووصف الآخر بأقذع الأوصاف ابتداء من المروق والزندقة إلى التغريب والأمركة، وإلى ما هنالك، ما يوسّع الشقة بين الطرفين، ويُقوّض كل أركان الحوار وشروطه بسحب البساط من تحته حتى قبل أن يبدأ، وبالتالي وطالما أننا نثق بأن الاعتدال هو الطرف الأقوى، تُصبح المناظرة وحدها أمام الناس هي الخيار الأفضل لتحييد الجمهور والمريدين، ووضعهم في مقعد الحَكم، باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن تسقط أو تنزع كل الأقنعة، وتُقيم الحجة في مكانها الطبيعي، لتجعل ذلك الجمهور يرى ويسمع ويُقرر، بدلا من أن يجد هذا الفكر فيه ضالته ليتفرد به ويجرّه إلى غياهبه.