متى يعتصرك الألم ؟ إنه في تلك اللحظة التي تشعر أنك وحيد في مواجهة المرض .. لكن مع إيمانك بالله ثم مع من يحيط بك من الأهل والأصدقاء قادرون بإذن الله أن يبددوا هذه اللحظة التي تتوحد فيها مع المرض. الصديق العزيز عبدالرحمن حمود الحوشان شفاه الله أصيب بمرض خطير وأورام عنيدة وهو إن شاء الله في طريقه للشفاء فأجهده المرض وأعياه وعندما قمت بزيارته في هذا الرمضان الكريم قال شقيقه الدكتور يوسف الحوشان وهو يتميز بالسماحة واللطف ومحبة الناس قال د.يوسف بصوته الحاني: قد لا تعرف عبدالرحمن بسبب الأدوية لكنه الحمد لله بطريقه للشفاء. عندها شعرت بحزن له ملامح الطفح و(الانسياح) ودلفت حيث يرقد عبدالرحمن. وعندما التقت عيناي بعينيه سوادهما وبياضهما وأمعنت كثيراً في انكسارات حاجبيه قلت في نفسي كيف لا أعرفه حتى وإن تطاير شعر وجهه وما تبقى من شعر رأسه، كيف لا أعرفه وأنا اقرأ في وجهه طفولته وطفولتي حين كنا في بيوت متلاصقة في الضفة الشرقية من بطحاء الرياض؟، كيف لا أعرفه وأنا ألمس فيه لمس اليد تاريخ طفولتي في شوارع البطحاء وحي العمل وفي ابتدائية ومتوسطة حينا الصغير.. كيف لا أعرفه ومكتبة والده للكتب قرب متجر والدي؟، كيف لا أعرف ابن الوراق الذي نشأ ابناً باراً بوالديه، نشأ قارئاً نهماً يلتهم الكتب ويتغذى على احبارها .. يعيش بعبق الماضي وتاريخ الأمس وحاضر اليوم. كيف لا أعرفه وأنا اتحسس طفولتي في أطراف يديه ومسام بشرته التي كحلها دواء المرض.. عندما اقتربت من عبدالرحمن الحوشان قال بصوته الذي أعرفه بصوته الودود ورقته المنسابة: أنا بخير وهذا ابتلاء من الله وأنا لمن الصابرين ونسأل الله الثبات. ذكّرني بطفولتي وأهالينا وحينا الشعبي المتعاشق بالمباني والمحبة ووجوه الناس المستبشرة.. دنوت منه قليلاً وشممت منه رائحة سكري بريدة وبرحي الخبوب ومكتومية النقع شممت منه رائحة سعف النخيل المخضر في احدى قرانا المغمورة بالأثل والرمال.. شممت منه عبق ازاهير الليمون والنعناع وحبق (السواقي) المتدفقة من (صباخات) الأرض.. كان عبدالرحمن الحوشان وهو على فراش المرض العنيد ينظر في عيني وكأني تاريخه وأنا انظر في عينيه وأستعيد مزيداً من ذكريات الرياضالمدينة عندما كنت أنا وعبدالرحمن وزملاء الدراسة الجامعية في كلية الآداب بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود ) في الملز قبل أن تصبح مدينة جامعية في الدرعية كنت التقي بعبدالرحمن في ساحة الكلية الصغيرة التي تظللها أوراق شجرة السنديان كنا نكتب على جذع السنديانة أو ربما البنسيانة لا أذكر تحديداً نكتب اسم المادة ورمز المادة وبعضاً من مخربشاتنا والبعض منا يكتب رمز من يحب بحرف لاتيني معوج.. كنا تحت شجرة السنديان نتعرف على فصول السنة عندما تتساقط أوراق الشجرة علينا نقول نحن في فصل الخريف وعندما تجف أغصان السنديانة نقول نحن في فصل الصيف وعندما تخضر وتطلع (زهيراتها) نقول نحن في الربيع وعبدالرحمن كان أكثرنا شهية على التعلم والاطلاع كان أسرعنا إلى مدرج (26). وكان يجلس بحضور وصلابة في الصف الأمامي وعندما أراه كنت أحسده على شغفه بالتعلم وحب المعرفة لأنه يمثل بالنسبة لنا في القاعة الأذن الصاغية. كثير من الصور المتناثرة في الحياة العمرية تجعلنا دائماً ننهار أمامها ليس جزعاً أو اعتراضاً على قضاء الله وقدره لكنها العاطفة الخازنة لنهر من الحنين للآخرين ولكل واحد منا مستودعه العاطفي وشحناته النفسية التي تتسع وتضيق بحسب الشخص وتداخله العاطفي معه.. أتمنى لجميع من ابتلي بالأمراض الخطيرة والمستعصية ان يشفيهم الله في هذا الشهر الكريم ويطهرهم من الذنوب والخطايا وان يتقبل دعاءهم وأعمالهم ويعيدهم من رحلة العلاج إلى صدور أهاليهم وأبنائهم أصحاء سالمين .. آمين..