السجن في اللغة العربية هو المحبس والسجين هو الشخص المحبوس داخله فلا يستطيع الخروج خارج نطاقه والانطلاق للاستمتاع بالحياة. قد يسجننا من حولنا وقد نسجن بملء ارادتنا فنبقى حبيسي ماضينا لأيام وسنوات فلا نستطيع الاستمتاع بالحاضر أو التخطيط للمستقبل. لماذا دائماً ماتجدنا نتذكر الماضي الجميل ونتحسر على فقدانه ونعيش على أطلاله متناسين أننا نملك الحاضر لنستمتع به؟! لماذا نهدر أوقاتنا بتذكر خيباتنا المستمرة فننشغل عن الانجاز فتجدنا قد خسرنا اليوم والذي سيتحول غداً الى خيبة جديدة نعيش على أطلالها ؟! هل تذكر الماضي متعة من متع دول العالم الثالث أم لعبة ادمنا لعبها حتى تحولت الى عادة لا يمكننا الخلاص منها؟. يقول سعادة السفير الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - في أقصوصته الأخيرة (الزهايمر): (عزيزتي, لماذا لا تمارسين هذه اللعبة على سبيل التسلية؟ تذكري أول مرة فعلت فيها هذا, وأول مرة فعلت فيها ذاك؟ وخلال اللعبة فكرت في موضوع يشغلني (وما أكثر المواضيع التي تشغلني) لماذا يلعب الماضي هذا الدور الكبير في حياتنا؟ قارني عدد الكتب التي تتحدث عن المستقبل وعدد الكتب التي تتحدث عن الماضي وأظن أنك ستصابين بصدمة. أنا لا أملك إحصائيات ولكني مستعد أن أراهن أن كتب المستقبل لا تصل الى 1% من كتب الماضي). الأمر لايقتصر على الشيوخ أمثالي, سواء جاءت شيخوختهم مبكرة أو متأخرة. حتى الأطفال يتحدثون عما كان (يوم كانو صغاراً!) هذا شيء يدعو الى الحيرة: أن يتحدث طفل الثامنة عن (ذكرياته) ويرفض الحديث عن السنة الدراسية المقبلة. وماذا عن الأمم ياعزيزتي؟ الأمم! اقرأي ماينتجه مفكرو الأمة العربية وأدباؤها وعلماؤها وستجدين النسبة نفسها 99% عن الماضي و1% عن المستقبل. آه! كيف تستطيع أمة أن تصنع مستقبلها وهي في قبضة ماضيها يعصرها عصراً حتى يستنفذ كل قطرة من طاقاتها؟ كيف نستطيع أن نقضي على التخلف إذا كنا نعتقد أن التخلف مفخرة لأننا اخترعنا الصفر ذات يوم (هذا اذا كنا حقاً اخترعناه!). استعرضي الكتب العربية الجديدة وعندما تجدين في سنة من السنين أن عدد الكتب التي تتحدث عن المستقبل, من المحيط الى الخليج, تجاوز الخمسين كتاباً تفاءلي بالخير واعلمي اننا بدأنا نتحرر من شبكة الماضي العنكبوتية, حقيقة لا مجازاً. ومع ذلك فأنا أعلن أن انتظارك سيطول.. ويطول!!(*). بما أنني أحد سجناء ماضيَّ وأحد مدمني لعبة تذكر الماضي فقد تأثرت كثيراً بما قرأت . لقد جاءت عبارات القصيبي رحمه الله من قبره لتوقظني من غفلتي وكأنها تقول لي: الى متى؟ هل سيصدق تنبؤ كاتبنا العزيز عندما قال (ومع ذلك أعلن أن انتظارك سيطول .. ويطول) أم انه سيأتي علينا غد قريب نستيقظ فيه من غيبوبة الماضي لنبدأ بالاستمتاع بالحاضر ورسم خارطة للمستقبل بكل ألوانه ومدنه ومطاراته وجيوشه التي سنحارب بها جهلنا الذي أطبق على أنفاسنا لسنوات فسجن عقولنا وأرواحنا في عصر قديم قد ولى واندثر ونحن مازلنا نهتف ونردد (كنا)، مازلنا نتغنى بأجداد لم يشغلوا أوقاتهم أو يفنوا جهودهم في التغني بمن قبلهم بل كرسوا جل وقتهم ليصلوا إلى ما وصلوا إليه, ولو أن كل أمة أضاعت أوقاتها في التغني بانجازات من قبلها لما كان هناك أمة تستحق أن نتغنى بها. تحرر من سجنك وابدأ من الآن, من هذه اللحظة ضع خطة لغدك ولا تهدر وقتك في ما مضى. فما فات قد فات وانتهى. كل يوم نعيشه هو بمثابة هدية من الخالق سبحانه وتعالى فلتستغله لتسعد نفسك ومن حولك. تذكر لماذا انت دائم التذكر للماضي؟! لأنك تجد به ما يسعد نفسك وينعشها. لأنه يذكرك بانجازاتك ونجاحاتك. ولكن! تذكر أيضا أنك أنت صاحب هذه الانجازات ولكن في وقت لم تهدره بتذكر الماضي والعيش على أطلاله, في وقت علمت فيه كيف تكون صاحب قرار وعزيمة. إذاً من لون ذلك الماضي بكل تلك الألوان المبهجة لديه القدرة لتلوين الحاضر والبدء برسم لوحة المستقبل. يقول أبو القاسم الشابي: ضعفُ العزيمة ِ لَحْدٌ، في سكينَتهِ تقْضِي الحياة ُ، بَنَاهُ اليأسُ والوجَلُ وفِي العَزِيمَة ِ قُوَّاتٌ، مُسَخَّرَة ٌ يخِرّ دونَ مَداها اليأسُ والوجَلُ والنّاسُ شَخْصان: ذا يسْعى به قَدَمٌ من القُنوطِ، وذا يسعَى به الأملُ هذا إلى الموتِ، والأجداثُ ساخرة ٌ، وَذَا إلى المَجْدِ، والدُّنْيَا لَهُ خَوَلُ فوداعاً لكل سجن ووداعاً لكل لحد ومرحباً بكل يوم جديد ومستقبل قريب أو بعيد (*) الزهايمر, القصيبي, غازي عبدالرحمن.الطبعة الأولى 2010م, ص75- 76