علم القانون هو واحد من أهم العلوم التي ترتكز عليها مجتمعات , وربما يكون من أكثر العلوم دقة وتشعبا في ذات الوقت , ولذلك نجد مثلا أن فقهاء الحنفية ابتكروا ما يسمى بالفقه الافتراضي , ولهذا السبب أيضا نرى منظمي القانون الوضعي وقد منحوا للقاضي سلطة الاجتهاد والبت فيما لم يرد فيه نص , لأن علم القانون ومهما بلغت مرونته وشموليته لا يمكن أن يجمع ضمن طيات كتاب واحد أو نظام واحد. وبما أنني احد المهتمين بهذه المهنة فقد اعتدت دائما على التفكير ببعض الافتراضات التي تواجه الإنسان في حياته العملية , ومنها ما يتعلق بتعادل المراكز القانونية ومنها ما يتعلق بما أسفرت عنه النقلة الكبيرة التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات وغيرها من الافتراضيات التي لا مجال لذكرها الآن , ولكن استوقفتني احدى النقاط القانونية والتي شغلت تفكيري كثيرا وهي تتعلق بالمفاضلة بين حق الشفعة والوعد بالتفضيل , فإن افترضنا مثلا أن هناك بائعاً للعقار قد قام بوعد شخص ما بتفضيله في البيع إذا رغب في بيع منزله وفي ذات الوقت قام جار البائع أو شريكه على الشيوع بالتمسك بحق الشفعة في مواجهته , فلمن تكون الأفضلية ؟. وهل يستطيع الموعود له الرجوع بالتعويض على البائع لإخلاله بالوعد ؟. إجابة ذلك السؤال أجبرتني على البحث عنها في كتب الفقه الإسلامي وكتب القانون كذلك لأن الإسلام أجاز الوعد واعتبر الإخلال به آية من آيات المنافق , وكذلك أجاز الشفعة باعتبار مراعاته لمصلحة الجار أو الشريك على الشيوع , وبعد الكثير من البحث توصلت إلى نتيجة أرى إنها الأكثر إقناعا , وهي أن الشفعة تتقدم على الوعد بالتفضيل وذلك لأن الشفعة هي حق مكتسب لصاحبه بقوة الشرع والقانون , في حين أن الوعد بالتفضيل هو حق لم يكسبه الموعود له إلا بوعد البائع , وبالتالي فهو حق مبني على الإرادة المنفردة للبائع , ولا تتقدم الإرادة المنفردة على ما اكسبه الفقه لصاحبه , كما أن الوعد بالتفضيل لا يعني إجبار البائع على البيع للموعود له بل تعني أن يكون للموعود له الأفضلية في التفاوض وان البائع لا يتفاوض مع الغير إلا بعد فشل المفاوضات أو رضا الموعود له بذلك ؟ أما الشفعة فهي تجبر البائع على التفاوض مع المتمسك بالشفعة دون أدنى دور للإرادة المنفردة , وهذا يبين أن ما اكتسبه المرء بقوة القانون لا يمكن تفضيله على ما يكتسبه المرء بالإرادة المنفردة , ولا حق للموعود له في الرجوع بالتعويض على الواعد لوجود حائل منع الواعد من تنفيذ وعده. ولكن بغض النظر عن صحة اجتهادي والذي قد يحتمل الصواب والخطأ , فإن دور الفقه الاجتهادي في القانون حيوي جدا لإكساب القانون المرونة التي يحتاجها لذلك , فالفقه الإسلامي والقانون بمثابة البحر , والفقيه المجتهد بمثابة من يغوص للبحث عما في البحر من لؤلؤ ومرجان. والله من وراء القصد