نسأل الله السلامة ، ونعوذ بالرحمن الرحيم من عقابه ، ونستعيذ به من العقوق فإنها ديون لازمة السداد إن طال الزمان أو قصر. قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء/23-25) قال المفسرون إن القضاء: فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء/23) أي: أمر بذلك، وقال: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) (الإسراء/4) فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحياً جزماً، ومن الفعل الإلهي قوله: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع) (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) وقوله: (فقضاهن سبع سموات في يومين) وقوله: (ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) أي: لفصل.. لذلك فإن مجيء كلمة (قضى) جاءت تأكيداً لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين. راكب تجاوز الخامسة والخمسين من العمر يقبع بجانبي على أحد كراسي الطائرة المتجهة إلى إحدى الدول الأوربية .. أمامنا رجل في نفس السن .. منذ أن وضعه ابنه على الكرسي وهو كالنحلة تاركاً مقعده وواقف بجوار مقعد أبيه .. مرة يصلح له قميصه ، ومرة يسأله إن كان يريد شيئاً قبل إقلاع الطائرة ، وتارة يتأكد من أن حزام الأمان قد احكم على خاصرة والده ، وهو في ابتسامة دائمة كلما دعاه والده أن ينحني ليهمس في أذنه.. أقلعت الطائرة وهذه الفترة عاد الولد إلى مقعده .. وما أن سمح بالتجول داخل الطائرة إلا والابن كالحارس والخادم على رأس أبيه يعد له طاولة الطعام ، واخذ صحيفة من الصحف واخذ يقرأ لوالده العناوين . التفت إلى جاري وقلت له: ما شاء الله أرأيت ما رأيت من هذا الابن لأبيه.. وما أن قلت هذه العبارة حتى رأيت جاري يدخل في موجة بكاء هستيرية جعلت الكل يلتفت نحو موضع جلوسنا حتى المضيف هرع إلينا .. وتساءل ما الأمر؟. حاولنا نسأله لم يستطع أن يجيب .. تركناه وقد أعددت له كأس ماء.. ظل الرجل لأكثر من عشر دقائق يبكي وصدره يكاد يقفز من بين ضلوعه من شدة البكاء.. وبعد أن توقف عن البكاء ناولته كأس ماء ليشرب.. شرب.. شعرت أنه هدأ وعاد لحالته الطبيعية ولكن بعيون مليئة بأمواج من الدموع.. وقبل أن أعيد عليه السؤال عن سبب بكائه هذا .. بادرني هو بالإجابة وقال : ليتك لم تسألني عن أمور الرجل الذي أمامنا وما كان من أمر ابنه معه.. فقلت له : أردت أن أريك صورة من الصور الجميلة في بر الأبناء بوالديهما لا أكثر ولا أقل.. ولكن لماذا ؟! قال ليت أبنائي يعاملونني بمثل هذه الصورة .. إنني أقاسي الأمرين منهم وأكثر.. هل تعلم أنني خرجت من المنزل وطلبت سيارة أجرة لتحملني للمطار ورغم وجود سياراتهم بالمنزل لم يفكر واحد منهم إيصالي للمطار !!.. وبدأ يتحدث عن كل شيء .. وبعد أن أخرج كل الهواء الساخن من صدره قال وبصوت مخنوق: لكن يا أخي الكريم أنا اليوم أُسقى من نفس الكأس .. وهز رأسه يميناً ويساراً وبزفرة حرى من صدره كادت حرارتها تذيب قطعة (الجاتوه) التي أمامي بصحن الطعام .. وكررها .. نعم الآن أشرب من نفس الكأس.. فهمتُ .. ولم أعقب.