قال فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد ان الاستقامة كلمة في دين الله تامة ووصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعة آخذة بجامع الدين حاكمة لدروب السالكين يقوم فيها المسلم بين يدي ربه على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد كلمة عظيمة تنتظم الأقوال والأفعال والنيات والأحوال فهي لله وبالله وعلى أمر الله بها كمال الأمر وتمامه وحصول الخير ونظامه من لم يلتزمها ضل سعيه وخاب جهده وانحرف مسلكه ومن أخذ بها وقام عليها كملت محاسنه واستوت طريقته تأملوا رحمكم الله هذا السؤال الدقيق والرغبة العظيمة والهمة العالية من هذا الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله الثقفي حين توجه إلى رسول الله صلى الله عليه الله وسلم قائلا يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحداً غيرك أو قال لا أسال عنه أحداً بعدك فأجابه رسول الله صلى الله عليه سلم هذا الجواب الجامع المانع: قل آمنت بالله ثم استقم . وأوضح فضيلته في خطبة الجمعة أمس أن أهل العلم أولوا هذا التوجيه النبوي عنايتهم وبسطوا القول فيه لعظمه وأهميته لأنه الجامع لأمر الدين كله قال أهل العلم: وهذا منتزع من قوله عز شانه(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) واجتمع على تفسير ذلك وبيانه الخلفاء الراشدون الأربعة 0 وقال فضيلته الاستقامة سلوك صراط الله المستقيم المدلول عليه بقوله سبحانه(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) دين قيم من غير عوج ولا ميل يقول الحافظ بن رجب رحمه الله الاستقامة التامة هي الاستقامة على التوحيد في تحقيق معنى لا اله إلا الله فيطاع الله سبحانه ولا يعصى ويشكر ولا يكفر والمعاصي كلها قادحة في التوحيد لأنها إجابة لداعي الهوى والشيطان. وأردف إمام وخطيب المسجد الحرام يقول إن الاستقامة تجمع حسن العمل والسير على نهج الحق والصدق وأولى الاستقامة استقامة القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومحبته وهيبته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه فإذا ما استقام القلب استقامت الجوارح كلها على طاعة الله , وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان , وفي والحديث عند احمد وغيره من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) وفي الحديث (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي تخضع له وتستسلم فتقول اتق الله فإنما نحن بك فان استقمت استقمنا وإن إعوججت اعوججنا ). وبين فضيلته أن المطلوب من العبدالاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر فالمقاربة ومن ضعفت عنده المقاربة فيخشى عليه أن ينزل إلى التفريط والإضاعة وقد قال عليه السلام (سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإتيان بالاستقامة على وجهها حق الاستقامة أمر لا يدركه الناس فقال صلى الله عليه وسلم(استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) فالسداد هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد 0 وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي عنه أن يسال ربه عز وجل السداد والهدى 0 والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يتمكن من إصابة الغرض نفسه. وأفاد أنه يجمع الاستقامة الاقتصاد في الأعمال ولزوم السنة وسلوك سبيل القصد والوسط بين طرفي الإفراط والتفريط واجتناب منهج الجور والإضاعة وقال تأملوا رحمكم الله هذه الآيات في رسم حدود الاستقامة يقول عز شأنه مخاطبا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا) فالاستقامة مقابلها الطغيان ومجاوزة الحد في كل أمر خروج عن الاستقامة فيه , فأعظم الكرامة لزوم الاستقامة والاستقامة دليل اليقين وطريق المخلصين وحسن الظن برب العالمين. وقال فضيلة الشيخ ابن حميد إن الاستقامة الوفاء بالعهود والقيام بين يدي الله على حقيقة الصدق وملازمة حد التوسط في كل أمور الدين والدنيا , يوضح الإمام ابن القيم رحمه الله الارتباط الوثيق بين الاستقامة ولزوم السنة والاعتصام بالهدى فيقول رحمه الله: إن الشيطان يختبر قلب العبد فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام بها وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها أمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد: قال رحمه الله وهذه حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم وكلا الأمرين خروج عن السنة فالأول خروج إلى البدعة والتفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف , وكل الخير والعدل والحق والرحمة بلزوم نهج الاستقامة فاجتهاد فاقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع. وفي المدينةالمنورة أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف الشيخ علي الحذيفي المسلمين بذكر أنعم الله عليهم التي لا يحيط بها إلا المنعم الكريم عز وجل وشكره عليها بدوام الطاعات وهجر المحرمات. وقال في خطبة الجمعة أمس: أيها المسلمون لقد بين الله لكم الحقوق التي أوجبها عليكم لتفوزوا بثوابها ولتنجوا من عقابها ، وأعظم الحقوق حق الرب سبحانه وتعالى بالعمل بتوحيده وهجر الشرك به والبراءة من أنواع هذا الشرك وأهله ، ثم بيان حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بمحبته وطاعة أمره وترك ما نهى عنه وعبادة الله بشرعه مع الإخلاص والصدق واليقين فذلك هو الفوز المبين وجعله قدوة لك أيها المسلم في كل شيء ، قال الله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم). وأردف فضيلته يقول: لقد بين الله لك أيها المسلم أيضا حقوق الوالدين اللذين جعلهما سبحانه سبباً لوجودك وحنوا عليك ورحماك من الطفولة إلى أن فارقتهما أو فارقاك تعبا لترتاح وجهدا لتسعد وسهرا لتنام وآثراك لتهنأ بالمعيشة ورعياك حال الضعف لتكمل وسريا عنك الهموم والأحزان لتفرح وأعطياك المال لتغتني ودفعاك للتعليم لترتقي درجات الخُلق والدين وهيئا لك الظروف والأجواء المناسبة بتوفيق الله تعالى ومعونته لتشق طريقك في الحياة ناجحاً مجداً موفقاً ، فما من خير يتمناه المرء لنفسه إلا والوالدان يتمنيان خيراً منه للولد وما من شره يخافه ويحذره الإنسان على نفسه إلا سأل الله الوالدان أن يحفظ الولد منه ، لهما الفضل بعد الله على الولد في كل شيء ولا يقدر الولد أن يقوم بحق الوالدين على صفة الكمال مهما بذل من البر والإحسان في سبيل والديه. ولعظم حق الوالدين على الولد قرن الرب حقه على الإنسان بحق الوالدين ، قال الله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ). وبين فضيلته أنه ولعظم حقوق الوالدين على الولد فمهما قام به الولد من البر فلن يوفي الوالدين حقوقهما الواجبة عليه لما لهما من الفضل عليه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه). وكما قرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين في كتابه بين ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى قال ( الصلاة على وقتها ، قلت ثم أي قال بر الوالدين ، قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله) والوالدان سبب من أسباب دخول الجنة ببرهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة ). وأفاد فضيلته أن من البر بالوالدين كثرة الدعاء لهما والصدقة عنهما والحج والعمرة لهما بعد الموت وصلة أصدقائهما بعد موتهما ، فعن أبي أسيد الساعدي أن رجلاً قال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيئاً أبرهما به بعد موتهما قال (نعم الصلاة عليهما)أي الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلى بهما وإكرام صديقهما. ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولو كان والداً أو غيره ، والبر بركة ونماء وزكاة وخير وحسن عاقبة وسعادة وفلاح ، وبر الوالدين يسري في الذرية والأجيال المتعاقبة ، وصاحب البر قد شرح الله صدره ويسر أموره ولطف به وفتح له أبواب الخيرات وحفظه من المكروهات. وقال فضيلته: إن ضد البر العقوق وهو معصية الوالدين ، وكما قرن الله حقه بحق الوالدين فكذلك قرن الشرك بالله ، وهو أعظم معصية لله ، قرنه بعقوق الوالدين ،فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) فانظر كيف قرن أعظم معصية لله بعقوق الوالدين لعظم جرم العقوق. والعقوق معناه معصية الوالدين وعدم طاعتهما والاستخفاف بحقهما وترك رعايتهما وعمل ما يغضبهما والاعتداء عليهما وظلمهما والسطو على مالهما بغير طيبة منهما وقطيعتهما وقلة الإحسان إليهما وقطيعة أقاربهما وأصدقائهما وعدم الدعاء لهما في الحياة أو بعد الممات وعدم العمل بنصائحهما ونسيان فضلهما وأعظم العقوق الإعراض عن إرشادهما للولد إلى الصلاة وإلى الاستقامة. وأفاد فضيلته أن العقوق شؤم وشر وهلكة ومحق بركة وتعسر في الأمور وعقوبات مؤلمة وقد تسري إلى الذرية فيصيبهم الشقاء وقد يختم لصاحبه بسوء خاتمة.