المتأمل في شخصية سماحة الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - يجد أنه كان أمة في رجل ، وإماماً في العلم والأخلاق والتواضع والكرم والشجاعة في الحق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنزال الناس منازلهم، وسلامة الصدر ، والولاء والبراء، والحكم والصبر على قضاء حاجات الناس ، على اختلافهم وتنوع مطالبهم ، حريصاً على الاصلاح ، وجمع الكلمة ، وتوحيد الصف، وتأليف القلوب ، رفيقاً هادئاً ، مقنعاً في الرد على المخالف، بليغ الحجة سهل الأسلوب واضح المعنى، قد أنزل الله له المحبة في قلوب عباده، والقبول لعلمه وفتاواه من الصغير والكبير، والعالم وغير المتعلم، في شتى أنحاء العالم الاسلامي ، فلقد خسرت الأمة بفقده عالماً تقياً ورعاً زاهداً عابداً ، ولا نزكي على الله أحداً. لقد عرف الناس الإمام ابن باز عالماً وقضاياً ومعلماً ومفتياً، ولكن فئة منهم من يعرفونه قائداً إدارياً ناجحاً ، أدار جهازين كبيرين لهما ثقلهما ومكانتهما وأعمالهما وأنشطتهما في الداخل، وعلى مستوى العالم الاسلامي، أولاهما الجامعة الاسلامية بالمدينة النبوية، والرئاسة العامة لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، وهذا ما دفعني لمحاولة تسليط الضوء على هذا الجانب من حياة الشيخ في هذه المقالة الموجزة، فهذا الجانب لم يحظ - فيما أعلم - بالاهتمام والتركيز الذي يستحقه ، فيما كتب عن الشيخ رحمه الله. شخصية فذة لقد يسر الله العمل تحت إدارة سماحة الإمام الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - مفتى عام المملكة ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لمدة سبع سنوات من 16/12/1404ه ، إلى 1/2/1412ه. ولقد كانت هذه الفترة من أغلى وأغنى سنوات خدمتي في الوظيفة العامة، حيث شرفني سماحته بطلب نقل خدماتي من جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية إلى الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والارشاد ، مديراً عاماً لشؤون الموظفين. وقد عملت بالقرب من سماحته وتحت نظره وتوجيهاته، وشرفت بحضور الكثير من اللجان والاجتماعات التي كانت تعقد برئاسته ، كما شرفني بالاشتراك في الكثير من اللجان الدعوة والإدارية والمالية، والزيارات الميدانية للكثير من مراكز الدعوة والارشاد في الداخل والخارج ، وبعضوية المجلس الاستشاري للرئاسة الذي كان يرأسه، رحمه الله، لقد كان الشيخ - رحمه الله - يملك شخصية فذة تملك خبرات متنوعة، فقدعمل في القضاء والفتوى ، والتأليف والإدارة والتدريس والتعليم العالي ، حيث درس في كلية الشريعة بالرياض، وفي الجامعة الاسلامية بالمدينة النبوية، أثناء ترؤسه لادارتها. ولقد كان من أبرز أعماله الادارية أنه عمل: نائبا لرئيس الجامعة الاسلامية بالمدينة النبويةمن 1381-1390 ، رئيساً للجامعة من 1390- 1395ه.، رئيسا عاماً للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والارشاد من عام 1395ه حتى وفاته في عام 1420ه ، رحمه الله، رئيسا ليهئة كبار العلماء ومفتياً عاماً للمملكة من عام 1413ه حتى وفاته في عام 1420ه، رحمه الله، إلى غير ذلك من المسؤوليات العلمية والدعوية والإدارية. وسأحاول - في هذه العجالة - أن أركز على ما يتعلق بالجوانب الإدارية من شخصيته، فقد كان - رحمه الله- من القادة الاداريين الناجحين الأفذاذ ، ومن يتأمل في منهجه الإداري ، يعتقد أنه كان متخصصاً في الادارة، فلقد أجاد وأفاد في تطبيق منهج اداري متميز على أرض الواقع، وفق القواعد الادارية الناجحة المنضبطة بالمنهج الشرعي. التخطيط والشورى ومن أبرز ملامح منهجه الاداري ، رحمه الله. 1- التخطيط: لقد كان - رحمه الله - يهتم بالتخطيط على المدى القريب والبعيد، لكونه جسراً يربط بين الحاضر والمستقبل، سواء في العمل الرسمي، أو الدعوي ، ويحرص على ذلك، ويوجه المسؤولين معه بالالتزام بالتخيطيط. 3- الشورى: لقد كان عجيباً في تطبيقه للشورى، في الأمور التي تحتاج إلى استطلاع الرأي والمشورة، فيستشير ويجيد الاستماع للآراء ، ويناقشها بكل هدوء، حتى يتبين الأصلح ، فيوجه للأخذ به واعتماده، وتراه أحيانا يكون لجنة لما يراه يحتاج إلى رأي مجموعة متخصصة، ويجيد اختيار الأعضاء وفق نوعية المطلوب دراسته، وقد أسس مجلساً استشارياً في الرئاسة كونه من كبار مسؤوليها برئاسته - رحمه الله - يحيل إليه المعاملات التي يرى ضرورة دراستها بشكل جماعي، ويرغب التشاور فيها وسماع الآراء حولها، للأخذ بأنسبها وأصلحها، ويجتمع هذا المجلس في الغالب أسبوعياً ، أو كلما دعت الحاجة ، ووجد من القضايا ما يستدعي اجتماعه. 3- التنظيم وتوزيع العمل: يعد التنظيم من أهم المهارات الادارية البارزة في أسلوب الشيخ الاداري، وكان يحرص على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، كما كان يحرص على تنسيق الجهود بين العاملين، وإيجاد التعاون فيما بينهم ، ويزرع الثقة بين الرئيس والزميل والمرؤوس ، ويحث الجميع في كل مناسبة على العمل كفريق واحد، وكان له أسلوب مميز في توزيع الأعمال والمهام على الموظفين في مكتب سماحته - مكتب الرئيس العام - الذين كانوا يعرضون عليه المعاملات والطلبات، ويدونون ما يوجه به سماحته على كل منها ، فقد خصص موظفاً لأعمال الدعوة في الخارج، وثان للفتاوى ، وثالث للدعوة في الداخل ، وآخر للمساعدات والمساجد والشفاعات ، وخامس للأعمال الإدارية والمالية في دايون الرئاسة، وفروعها في الداخل والخارج ، وآخر للبحوث والمجلة، وموظف خاص بمسائل الطلاق، وهكذا.. وقد اختار لكل مجال ما يناسبه من الموظفين ، وقد كان - رحمه الله - سريع الاستذكار للأسماء والمعاملات ، وأسماء الدعاة وأماكنهم ، في الداخل والخارج. 4- الحرص على تطبيق النظام على الجميع: لقد كان حريصاً على تطبيق النظام على الجميع ، إلا إذا رأى مصلحة راجحة في الاستثناء فإنه يرفع بذلك لولاة الأمر، مبرراً ذلك بالأسباب التي تقتضيها الحالة، وقد كان - رحمه الله - يحظى بمكانة كبيرة، وبالاحترام والتقدير عند ولاة الأمر - حفظهم الله. 5- القدوة الحسنة: لقد كان قدوة حسنة في خلقه وصبره ، وسمته وشخصيته ، وعمله وتعامله، وانضباطه ودقته في المواعيد، واستغلاله للوقت ، وكان مضرب المثل في علو الهمة، ودماثة الخلق ، والتواضع الجم، كما كان يمتاز بالعلاقات الجيدة مع جميع العاملين معه ، بل جميع شرائح المجتمع، ويدرك ذلك كل من عمل تحت إدارته ، أو قابله أو اتصل به. 6- إدارة الوقت وحسن استثماره: لقد كان - رحمه الله - نموذجاً نادراً في حفظ وتنظيم الوقت ، فسماحته - رحمه الله- ليس لديه وقت فراغ ، فهو يهتم كثيراً بالوقت ويقدر قيمته الحقيقية ويحسن استغلاله بكل دقة ومهارة، فالمتتبع له في اليوم والليلة يعجب كيف يقدر على هذا الكم الهائل من العمل، وخاصة عندما كبر سنه ، فهو في عمل دائم وأقل ما في جدوله اليومي هو النوم، أما الباقي فكله في سبيل الله ، ابتداء من قيامه للتهجد في آخر الليل ، إلى دروسه بعد الفجر والاطلاع على ما يعرض عليه في هذا الوقت ،إلى الدوام حتى قبيل العصر، ثم دروس ما بعد صلاة العصر، ثم الجلسة العامة للإفتاء بعد المغرب، وقضاء حاجات الناس، إلى الوقت المخصص بعد العشاء للمعاملات والاجتماعات وتسجيل حلقات الأحاديث والفتاوى وغير ذلك. ومع هذا البرنامج اليومي المزدحم إلا أنه كان يخصص بعض الوقت لأسرته، بل يحدد أوقاتاً مخصصة لتعليمهم وتدريسهم وتربيتهم في أيام معلومة، كما يهتم بزيارة أقاربه، من كبار السن والمرضى ونحو ذلك ، وقد كان يتميز بدقته المتناهية في ضبط المواعيد ومعرفتها، دون الرجوع للتقويم، لقد كان الشيخ يعمل طوال السنة دون إجازة، بما في ذلك يومي الخميس والجمعة، والاجازات النظامية، وكان يستفيد من الوقت حتى في الزيارات الخاصة وفي السيارة والطائرة، وعند سيره من البيت إلى المسجد، ومن المكتب إلى المسجد والعكس، وذلك بالقراءة والشرح، والاجابة على الاسئلة والتوجيه على المعاملات ، بل لقد رأيته يُسأل ويجيب على الطعام ، فقد كان كل وقته في خير. 7- سياسة الباب المفتوح: لقد كان يستقبل الجميع، الصغير والكبير، العالم والعامي، الغني والفقير..على اختلاف فئاتهم بصدر رحب وترحيب وسؤال عن الأحوال في جميع الأوقات ، في المكتب والمنزل نهاراً وليلاً دون كلل أو ملل، وكان يقضي لكل واحد حاجته، أو يشفع له ، حسب المستطاع، ويطلب من زواره مشاركته في تناول الغداء والعشاء، وكان بيته رحمه الله مأوى وسكناً عاما. 8- التفويض: لقد كان يجيد التفويض والتوكيل فيما يراه يخدم المصلحة العامة، فكان يمنح معالي نائبه - رحمهما الله - ومديري الادارات ومراكز ومكاتب الدعوة والإرشاد، والملحقيات الدينية، ما يراه من صلاحيات تخدم العمل، والمصلحة العامة ،مع المتابعة بعد التفويض، وكان يجتمع بالموظفين عند تكليفهم بالمهام والوظائف المختلفة ويوجههم وينصحهم حول الأعمال التي كلفوا بها ، وقد كان مضرب المثل في عملية التوجيه والقيادة والإرشاد، من حيث قدرته الفائقة بالسير الصحيح بمن هو تحت إدارته لتحقيق الأهداف ، فتجد منه التوجيه الدائم الحكيم لهم بالقول اللين وبالكتابة. 9- التحفيز: وكان - رحمه الله - يسعى لرفع مستوى العمل والإنتاج بشتى أنواع ووسائل التحفيز المعنوية، والمادية، والإشادة بالمحسن ، وزرع الطمأنينية والاستقرار، وحب الانتماء للعمل، وإشاعة روح الأخوة والثقة والاحترام، وحسن الظن، ونشر العدل، إلى غير ذلك من الوسائل المفيدة لتحفيز العاملين. 10- الرقابة: كان يهتم بالرقابة بأنواعها، فكان يركز على الرقابة الدينية- الذاتية، فكان يربط كل عمل بمراقبة الله سبحانه وتعالى، كما كان يهتم بالرقابة الإدارية المعروفة، ويؤكد على ما تبرأ به الذمة ، ويشعر الجميع بعظم المسؤولية وتبعاتها. رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات الفردوس الأعلى ، ووالدينا والمسلمين أجمعين، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وبارك في علمه، ونفع به إلى يوم القيامة. البريد الإلكتروني: [email protected]