الحمد لله الذي بلغنا رمضان ، شهر القران والمغفرة والعتق من النيران ، كتب الله صيامه علينا ليستخرج التقوى ويحصلها من نفوسنا (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183. فرمضان لنا نحن المسلمين مدرسة عظمى وجامعة كبرى ومحطة إيمانية ننهل من معينها ما يكون زاداً لنا في بقية أيام العام . فرمضان يكشف لنا عن كنوز عظيمة وطاقات هائلة وقدرات طموحة وقرارات شجاعة ، تحويها نفوسنا وتنطوي عليها قلوبنا في جوانب العبادة والسلوك والأخلاق ، يُوقِفُنا الله عليها في أنفسنا ويريد منا أن نعتاد جوانب الخير هذه التي نقوم بعملها وممارستها في رمضان لتصبح جزءاَ من حياتنا في سيرنا إلى الله والدار الآخرة , تُهذَبُ بها أخلاقُنا وتزكُو بها أنفُسُنا. ويقول علماء النفس إن الإنسان إذا أثبت عملاً في سلوكه وقام به ثمان عشرة مرة فإنه يستطيع ان يداوم عليه طوال حياته ويصبح جزءاً من سلوكه المعتاد. وفي هذه الكلمات اليسيرات نقف معاً على ( كنوز رمضان) التي تنطوي عليها أنفسنا ونتواصى بها ونستصحبُها لتكون جزءاً من حياتنا طوال العام ونحن قادرون على ذلك متى ما أردنا ، بإذن ربنا الرحمن. 6 كنز الدعاء : قال الله في ثنايا آيات الصيام : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة 186. وقال صلى الله عليه وسلم : (ثلاث دعوات مستجابات : دعوة الصائم ، ودعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ) رواه البيهقي وصححه الألباني. ويجتمع للداعي ، دعاء المسألة بتحقيق المرغوب ودفع المرهوب ، والعبودية لله والافتقار بين يديه ، قال العلامة السعدي رحمه الله : ومما ينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب أو دفع مرهوب أن لا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات ، ومن كان هذا قصده في دعائه « التقرب إلى الله » فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبه فقط ، كحال أكثر الناس فهذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم. فيستمتع العبد بلذة مناجاة ربه وسؤاله وتملقه والقرب منه سبحانه ثم تحقق وحصول مطلوبه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : وكلما قوى طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له ، وحريته مما سواه. وقد تعود الصائم الدعاء خلال يومه وعند فطره ، ويؤمن على دعاء الأئمة في صلاة التراويح ، والدعاء عبادة ، بل قال صلى الله عليه وسلم : (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) رواه الترمذي وصححه الألباني. فاستمر على دعائك لله طوال أيام العام فإن الله هو مغيث اللهفات وقاضي الحاجات ومجيب الدعوات ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ) رواه الترمذي وصححه الألباني. بل قال صلى الله عليه وسلم : (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني. 7 كنز الجسد الواحد : قال الله :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183. فالأمة كلها تصوم ، الغني والفقير ، وعندما يجوع الغني وهو قد ترك الطعام عن طواعية واختيار ، فيشعر بألم الجوع والعطش ، ويشارك إخوانه الفقراء الذين لا يجدون الطعام والشراب ، ويشاطرهم أحزانهم ، فيألم لألمهم ويحزن لحزنهم ، فيواسيهم بما تجود به نفسه ليخفف عنهم ، ولهذا : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) متفق عليه. وكذلك ما يكون من الدعاء والتأمين عليه في صلاة التراويح ، وتحقيق معنى الجسد الواحد بالدعاء لإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ( اللهم كن لإخواننا المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان ، وفي ليبيا وسوريا واليمن وفي الصومال ، اللهم أصلح أحوالهم وفرج همومهم ونفس كروبهم... ) ، والمطلوب أن يستمر معنا هذا الشعور تجاه إخواننا طوال العام ، حتى يتحقق فينا قوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) متفق عليه. 8 كنز المغفرة : من أعظم كنوز رمضان ، مغفرة الذنوب ، ولا بد أن يُغفر لك يا عبدالله ، واسمع إلى نبيك الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم ماذا يقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتاني جبريل ، فقال : يا محمد ! من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقلت : آمين ، قال : يا محمد ، من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقلت : آمين ، قال : ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقلت : آمين) صححه الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم : (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ) رواه الترمذي وصححه الألباني. فرمضان فرصه لمغفرة الذنوب وستر العيوب وإقالة العثرات ، والعودة والتوبة والأوبة إلى (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) غافر 3 (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )الشورى 25. ولذا قال صلى الله عليه وسلم : (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) رواه مسلم. فلنكثر من الاستغفار والتوبة في رمضان وطوال العام ، فقد كان صلى الله عليه وسلم سيد المستغفرين ، وهو من غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال صلى الله عليه وسلم : (والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري وعن الأعز بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم. 9 كنز دخول الجنة والنجاة من النار : الله أكبر ، بدخول رمضان يُحدث الله بقدرته تغييراً في الكون ومخلوقاته ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (رمضان شهر مبارك تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب السعير وتصفد فيه الشياطين وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر) ( قال الألباني ( صحيح ). وفيه من سعة الرحمة والقبول ما هو ظاهر ، بل لم يكن السؤال هل يدخل الصائم الجنة أم لا يدخل ، بل كان الحديث : من أي الأبواب يدخل الصائمون : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون) رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : (إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد) رواه البخاري. ومن دخل الجنة حرُمت عليه النار ، برحمة الله وفضله ، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم : (الصوم جنة من عذاب الله) رواه البيهقي وقال الألباني ( صحيح ) . وقال صلى الله عليه وسلم : (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) رواه الطبراني وقال الألباني ( حسن ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال )) رواه أحمد وقال الألباني ( صحيح ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصيام جنة وحصن حصين من النار )) رواه أحمد وقال الألباني ( حسن ) ، ودخول الجنة والنجاة من النار ، هو ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم : فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: (( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: “مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟” قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: “حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ )) أخرجه أبو داود - وصححه الألباني ، فادع الله ، وقل دائماً : اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. 10 كنز الأخلاق وحُسنها : الصوم يُزكي النفوس ويُهذبها ويُعليها ويُربيها ، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : (الصيام جنة ، فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل إني صائم – مرتين.. ) متفق عليه ، فالصيام ، يرتقي بأخلاق صاحبه ، ويزينه ، ومنزلة الخلق الحسن في منزلة رفيعة ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا , وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا , وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه (رواه أبو داود وقال الألباني ( صحيح ). وقال صلى الله عليه وسلم : (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا..) رواه الترمذي وقال الألباني ( صحيح ). فلنحرص على أن نحسن أخلاقنا في رمضان وفي كل وقت وحين. اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.