تبذل حكومات الدول الخليجية جهودًا كبيرةً في مجالات تنموية عديدة. وهذا الحراك الكبير في المنطقة يكاد يكون موجّهًا لحل مشكلتين أساسيتين؛ الأولى تنويع مصادر الدخل تخفيفًا من الاعتماد على النفط، والثانية لخلق وظائف مناسبة ومستدامة لكبح جماح البطالة، التي قد تفضي إلى الفوضى والانهيار. وككثيرٍ من الدول خارج المنطقة، يُستعان بمكاتب الاستشارات العالمية بحثًا عن حلول عاجلة لمشاكل معقدة. ولا يشك مطّلع بقدرات هذه المكاتب الاستشارية على تقديم حلول مبتكرة، ولكن لكل مواطن الحق في التساؤل عن نواياها ورغباتها ومعرفة نتائج أعمالها السابقة في المنطقة، وكيف تتم حماية المعلومات الدقيقة التي يطّلعون عليها. ومن خلال التجربة في التعامل مع العديد من المكاتب الاستشارية العالمية العاملة في المملكة، ومن خلال الاطّلاع على تجارب آخرين أزعم أن لبعضها أجندات واضحة قد لا تتفق مع أجندات مَنْ تعاقد معها. ويكتشف المتعامل مع بعضها سريعًا أنها في أفضل الأحوال تخطط للبقاء أطول مدة ممكنة في المنطقة؛ فلا تُقدِّم الحلول التي قد تؤثر على أعمالها مستقبلًا. ويذكر لي بعض المستشارين أنهم في كثيرٍ من الأمور يحاولون موافقة صاحب القرار، حتى ولو كان لهم رأي آخر، وخاصةً عندما يرونه مؤمنًا إيمانًا تامًا بصواب موقفه. والكثير من أصحاب القرار يُدركون هذا وأكثر، ولكن بعضهم يكون تحت تراكم ضغوط مشاكل ورثها من مسؤولين سابقين، ومطالب بتقديم الحلول العاجلة للمواطنين، ولو لم تكن كما يأمله، ولكنها تبرز جديّتهم واهتمامهم وعملهم وتبدو للناظر حلولًا منطقية وفي حلة جميلة. إن كثيرًا من المستشارين الكبار لا يملكون وعيًا دقيقًا بتفاصيل البيئة في الخليج، ويعتمدون أساسًا على فهم أصحاب القرار، والذين لا يملكون الوقت الكافي لضمان الفهم الشامل للعوامل المؤثرة في المنطقة. فمثلًا من المتيسر الاطّلاع على تجارب دول كثيرة من خلال المكاتب الاستشارية، والتعرُّف على قصص نجاحها وفشلها، والتي عملت وتعمل لتحقيق نفس الأهداف. لكن يجب فهم الوضع المحلي وعناصره قبل التفكير في نقل أي تجربة منها إلينا. لدى دول الخليج إمكانيات هائلة وشعوب متعلمة، ولديها كبرياء يدفعها لمواكبة بقية الشعوب التي سبقتها وتقع في قلب العالم جغرافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا؛ أي خطط تحوّل اقتصادية لا تأخذ في الاعتبار القيم والعوامل المحلية سيكون مصيرها الفشل. وفي مقدمة هذه العوامل المحلية التي نتفهمها هي الرفاهية التي تعوّد عليها المواطن الخليجي، ونسبة التعليم العالية، وسهولة الوصول إلى المعلومات الرقمية بوجود بنية تحتية مميزة. فبمثل هذه العوامل يجب رفع سقف الطموحات عند تطوير أي قطاعات خدمية أو اقتصادية ضمن برامج توليد الوظائف المختلفة. كان الخليج ولا زال يخلق ملايين الوظائف، ولكن ما نوعها، ومَنْ تستقطب؟ إن نظرة فاحصة لسوق العمل الخليجي سيرى حقائق صادمة. معظم الوظائف مهنية برواتب زهيدة، وفي بيئات عمل غير مناسبة، فنستقطب لها عمالة أجنبية غير متعلمة، قد لا تجد قوت يومها في بلدانها. كيف يمكن لنا أن نقوم بعملية توطين لهذه الوظائف، وهي التي يقوم شاغلوها بالبحث عن بدائل لتركها عند أقرب فرصة. لا يمكن لنا أن نتوقع أن ينافس المواطن في بيئات عمل، كما هي الحال عليه الآن. لابد من رفع مستوى الخدمات والصناعات في منطقة الخليج، بحيث تتطلب مهارات علمية وتقنية مناسبة لا تسمح لمن لم يتعلم من العمالة الأجنبية بالمنافسة، حيث تخلق فرص عمل لا تستقطب سوى العمالة الماهرة ومعتمدة على تعليم مرتفع استثمرت فيه دول الخليج الكثير من الأموال على مدى عقود. الفرصة سانحة اليوم لدول الخليج للدخول السريع في نادي الدول الصناعية المتقدمة بالاستغلال الأمثل للمزايا التنافسية التي تملكها دول الخليج. تؤسس صناعات مستدامة معتمدة منذ البدء على استراتيجية حديثة تتبناها الدول الأولى كألمانيا، وترسم صورة التصنيع المتقدم في العقود القادمة، مثل ما يسمى الثورة الصناعية الرابعة (الصناعة – 4). وتعتبر ألمانيا الرائدة في مجال التصنيع المتقدم والمتصدرة للثورة الصناعية الرابعة، وبنت استراتيجياتها الصناعية آخذة في الاعتبار مفاهيم (الصناعة 4) لتحافظ على ريادتها. كما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسير في نفس المسار بتشكيل التحالف القيادي للتصنيع الذكي (Smart Manufacturing Leadership Coalition). وقد تمّ نشر الكثير من التقارير الهامة للإشارة إلى أهمية أن تتبنى الدول مفاهيم الصناعة 4 عند بناء الاستراتيجية الصناعية؛ سواء أكانت دولًا رائدةً أو ناميةً. ونرى أن أهم تقرير في هذا المجال هو تقرير بعنوان (تأمين مستقبل الصناعة الألمانية – توصيات لتنفيذ المبادرة الاستراتيجية – الصناعة 4)، والذي نُشر في 2013م من قِبل وزارة التعليم والبحث الألمانية. طرح التقرير آراء مجموعة عمل من الخبراء والمهنيين حول الاستراتيجية المزدوجة المقترحة؛ لتكون ألمانيا سوقًا ومنتجًا للصناعة 4 المبنية على إنترنت الأشياء. كما أن عددًا من مكاتب الاستشارات العالمية، مثل BCG وMcKinsey وPwC، نشرت بحوثًا توضح أن الفرصة مُتاحة لدول جديدة لتبوأ مكانة متقدمة في الصناعة مستقبلًا أو أن تكون شريكًا في أحد التحالفات المتنافسة. ومع ذلك لا نتوقع أيًا منها أن يقدم نصائح لدول الخليج لتبني هذه الاستراتيجية، رغم العقود الاستشارية الكبرى، التي أُبرمت معها. بل أزعم أنها ستقدم عروضًا فنيةً باهرةً للسخرية من أطروحات ترسم الطريق الصحيح نحو التحوّل الصناعي الكبير. في مقالات لاحقة سنفصل إن شاء الله الفرص الصناعية الكبيرة، وكيف لدول الخليج أن تستثمرها لتحوّل اقتصادي مفصلي. ————– أستاذ جامعي متقاعد