تعمل الاقتصاديات المتقدمة على حفظ التوازن بين الإنسان والبيئة والمقومات الحياتية، ويصل الأمر في بعض الدول إلى أن تحدد عدد السكان المسموح بهم في كل مدينة، بحيث لا يزيدون عن مستوى معين ولا ينقصون عن مستوى معين. ونحن هنا في المملكة كنا نحقق ذلك التوازن المهم بين الإنسان والبيئة والمقومات الحياتية؛ لكن وبعد الطفرة الاقتصادية الأولى، ومع بداية خطط التنمية الخمسية وقعت أخطاء تخطيطية استراتيجية لا زلنا نعاني من نتائجها حتى الآن. وتمثلت تلك الأخطاء في تركيز التنمية على المدن الرئيسية الرياضوجدة ومكة والشرقية، وتكديس الجامعات والكليات والمعاهد والمستشفيات الكبيرة والإدارات الحكومية وشبه الحكومية والشركات والمصانع الخاصة والمساهمة في تلك المدن، مع إغفال معظم مناطق المملكة الريفية من معظم مكونات التنمية الرئيسية. النتيجة كانت هجرة أعداد كبيرة من سكان الريف إلى المدن، حتى أن بعض القرى فرغت تماماً من سكانها، وانخفضت أعداد السكان في المدن والقرى والبلدات الريفية الأخرى؛ في المقابل اكتظت المدن الرئيسية بأعداد كبيرة جداً من السكان تفوق طاقتها المكانية والخدماتية. وكانت الآثار الاقتصادية على طرفي الهجرة سيئة جداً، جعلت منهما مكانين غير صالحين للحياة. فالريف ينقصه الكثير من المقومات الحياتية والخدمات الأساسية. والمدن لم تستطع كل الخدمات المقدمة لها تحمل الضغط البشري الهائل عليها من المواطنين والمقيمين. والهدر الاقتصادي في الجانبين واضح جداً، ففي الريف تكاليف الخدمات الضرورية التي تقدم للمواطنين عالية جداً جدا؛ لأنها أكبر بكثير من العوائد المرجوة منها، وهذا سبّب تأخيراً كبيراً في تنمية الأرياف والمدن الصغيرة. في الجهة الأخرى تُستهلك الخدمات المقدمة للمدن الكبيرة بسرعة عالية جداً تفوق التكلفة المدفوعة مقابلها بسبب الكثافة السكانية التي تفوق كل ما يقدم من خدمات. والمحصلة أنه لا توجد خدمات جيدة في الريف ولا في المدن، ما يعني هدراً اقتصادياً هائلاً في الجانبين. تداركت الطفرة الثانية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -رحمه الله- جزءاً من الخطأ السابق، من خلال تأسيس أهم ثلاثة عوامل تنموية كانت تحتاجها المناطق الريفية والمدن الصغيرة والمتمثلة في الجامعات والمستشفيات والطرق. وهذا أدى إلى إبطاء وتيرة الهجرة الداخلية لفئة الشباب الجامعي، مع بقاء الهجرة من أجل العمل والصحة وتحسين الظروف الحياتية؛ كما أن الهجرة العكسية غير موجودة وإن وجدت فمحدودة جداً، ما يعني أن الوضع لم يتغير كثيراً عن السابق في المدن الكبيرة والأرياف. ولكي تتم الاستفادة من كامل مقدرات الوطن البيئية والإنسانية والمقومات الحياتية بحيث ترتفع العوائد الاقتصادية للإنسان والبيئة والمقدرات المادية؛ يجب العمل على إعادة توزيع السكان على كامل مساحة الوطن المأهولة؛ ولن يتم ذلك إلا بتهيئة المناطق الريفية بحيث تصبح جاذبة للهجرة العكسية. وحتى تتم تلك التهيئة بشكل صحيح فإنها بحاجة لمرحلتين رئيسيتين: الأولى يتم فيها رفع كفاءة الخدمات المتوفرة في تلك المناطق بحيث تصبح موازية لمثيلاتها في المدن الكبيرة، فلن يضحي طالب بجامعة مرموقة من أجل الدراسة في جامعة لا تختلف عن المدارس الثانوية إن لم تكن أسوأ؛ وهذا مقياس لكل الخدمات الأخرى من تعليم عام وصحة واتصالات وغيرها. وتشمل المرحلة الأولى أيضاً تهيئة البنية التحتية لامتلاك سكن جيد بتكاليف مناسبة متوفر الخدمات ضمن مخططات حضرية حديثة، لأن البناء العشوائي لا زال يطغى على الأرياف والمدن الصغيرة. وأخيراً تعزيز المهن التي تخدم تلك المدن مثل الزراعة والرعي والسياحة والصناعات المحلية مثل العسل والتمر وغيرها من المهن المناسبة لتلك المدن الصغيرة. أما المرحلة الثانية فتقتضى نقل بعض المؤسسات والخدمات والشركات المتكدسة في المدن الكبيرة للمناطق الريفية حسب الإمكانية والحاجة، بحيث يتم تفتيت الاكتظاظ السكاني في المدن الكبيرة دون مبالغة، من أجل الحفاظ على الطبيعة الريفية للمدن الصغيرة. ما سينتج إن تحققت الهجرة العكسية على المستوى الاقتصادي: أولاً ستنخفض تكاليف التنمية كثيراً، وثانياً سترتفع الاستفادة من تلك التنمية لأقصى درجة ممكنة، وأخيراً سيتم الحفاظ على التوازن السكاني والتنموي والبيئي. متى أصبحت الإقامة في أي جزء من الوطن محكومة بالرغبة وليس بالضرورة نكون حققنا تحولاً وطنياً كبيراً في طريق الإصلاح بكل جوانبه. @abdulkhalig_ali [email protected]