هذا المثل ينطبق حرفيًا على مجموعة بشرية جعلت من الثقافة وسيلتها لارتقاء سلّم السّلط المختلفة وليس كوسيلة للإغناء الداخلي والتنوير، أصل العنوان الفرعي مثل مغاربي شعبي يطلق على الذي يستفيد بشكل انتهازي من كل الفرص التي تُمنَح له، لكنه في الوقت نفسه يشتم كل ما خالف ذلك، مما يترقبه من مناصب ومصالح خاصة جدًا ولا علاقة لذلك بما يدافع عنه شكليًا من قناعات وحرية القول. يشكل هذا النوع من المثقفين جزءًا لا يستهان به في النخب الثقافية، يتصرّفون في الشأن الثقافي الوطني كما لو كانوا في مزرعة تعود لأجدادهم، وهم بهذا الشكل، يستصغرون عقل القارئ الذي يتابعهم ويرى يوميًا عن قرب ارتباكهم وتحوّلاتهم التي لا شيء يجمعها إلا المصلحة في أفقها الأكثر ضيقًا، ومحدودية، في النهاية هم مع من يمنح أو يدفع أكثر، لا يوجد أي مبدأ ناظم لأفكارهم وممارساتهم، كثيرًا ما أقرأ عن انتفاضة بعضهم ضد النظام القائم أو من يمثله، لا دفاعًا عن خيار ديمقراطي أو إنساني، لكن انتسابًا إلى ذات متهالكة يرونها فوق الكلّ، ولا تعدو أن تكون الخطاب الحماسي زوبعة في فنجان. هذا النوع من المثقفين، الذين كبروا داخل العملقة الكاذبة والمتمادية، وعلى حواف الدوائر الضامنة لمصالحهم، لا يدافعون عن نبل الفعل الثقافي الذي هو في نهاية المطاف، حالة شراكة حقيقية بين المثقف وما يمثله ضمن منظومة القيم الرمزية، وتواضع كبير أمام ما ينتظر البشرية من مهام جليلة باتجاه الإنسان. لا ينفصلون أبدًا عن التمركز حول الذات المريضة الذين يبنون عليها كل شيء قبل أن ينتهوا إلى حالة باتولوجية إكلينيكية مستعصية. هاجسهم المركزي هو «الأنا» التي تدور بلا توقف داخل طاحونة التمركز، قبل أن تتحوّل إلى كماشة ضاغطة حتى الموت، إذ تشتغل وفق الاستجابة الشرطية البافلوفية التي لا تتيح أي فرصة للعقل الناظم، مستسلمة لغرائز التسلط والهيمنة، إن هم أخطأوا إدارة، يحلمون بأقل منها. وإذا لم يقتنصوا سفارة، ينتظرون قنصلية، وإن أخفقوا في اعتلاء كرسي وزارة، يحلمون بإدارة شركة والجلوس على كرسيها الدوار. المهم أن يظلوا على تماس مع المؤسسات، سيدة القرار السياسي والثقافي. هم في حالة ترقب دائم على الرغم من كساء العفة الكاذبة الذي يرتدونه، ليخرجوا مثل الشعرة من العجين، كلما تعلّق الأمر بهذا الخيار، هربًا من التلبّس. ينسجون الخيوط السرية لضرب كل من يرونه واقفًا ومنافسًا لهم، أو يتصورونه كذلك، لأن أدواتهم الفنية أو الأدبية لا تؤهلهم حتى لذلك، فيعملون على إطفاء كل نور وتعطيل أية طاقة حيّة، ولو باعتماد زرع الشائعة والكذب والزيف، وفبركة القصص ضد كل من لا يحبون أدرجة الضغينة. أتساءل: هم في النهاية ليسوا أغبياء أو لا يفهمون، لأن الجهد الذي يستغرقونه لتدمير قيم الخير والنور، كثير جدًا، ويربك الكثير الناس البسطاء، هم عادة مثقفون وفي صلب معركة القيم الرمزية، ومواقعهم ليست سيئة، عندما يدخلون ضمن دائرة الرداءة المستشرية عربيًا، يعاودون لا يستسلمون لها كما هي، بل يعاودون تصنيعها بحيث يمكنها أن تستوعب أوهامهم التي لا تتوقف وبؤس رؤاهم، وكأن العالم لن يسير بدونهم، وبمجرد أن يوضعوا ضمن المتاع العام للسلطة وتنتهي مهامهم، أو لا يحصلون على ما حلموا به بعد الولاءات وتقديم الخدمات الجليلة للمؤسسة بهدف الارتقاء والتنبه لهم، يبدأون في الصراخ والعويل، وشتم الدولة التي عجزت عن تقييمهم ومعرفة قوتهم الثقافية وتأثيرهم، وتصبح المؤسسات التي داروا في دوالبها كثيرا، وكانوا خاتمًا طيّعًا في أصبع الطاغية أو الأقوى، تصبح بكل بساطة عفنة وبلا قيمة. وفي اللحظة التي يظنون فيها أنهم أحرقوا كل ما جاء في طريقهم، يكونون قد تحولوا إلى رماد ونثار. الثقافة والكتابة والحرية، أكبر من هذا كله. قيم إنسانية متعالية على كل شيء بما في ذلك المصالح الصغيرة. بعد الصراخ الذي يسمعونه لجميع الخلق والسماء، يتغيرون فجأة إذا ما نودي عليهم بتحريك الأصبع الأصغر، يركضون وينسون كل خطاباتهم السابقة التي تتحدث عن عبقريتهم الفذة التي لم يفهمها عصرها، وعن شجاعتهم الخارقة، حرية رأيهم. هناك قدر من الخبل يستحيل علاجه. فهم يتصوّرون الناس بلا ذاكرة، أميين، لا يتذكرون شيئًا مما مضى. طبعا الناس عموما، الذين يتابعون، ليسوا مصابين بكل هذا القدر من العمى والسكيزوفرنيا والزهايمر مطلقا. يتذكرون الصغيرة والكبيرة، إذ تكفي متابعة ردودهم في وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة، لندرك أن لا شيء غاب عنهم من حيث الجوهر، وأنهم مطلعون على كل الحقائق أو أهمها، التي تبدو منسية أو مغيبة وهي ليست كذلك. الناس يقرأون ويتابعون، لكنهم محكومون بالمواضعات الاجتماعية، وأحيانا ببعض الحياء الذي لا نجده عند هذه الفئة الثقافية المصابة بحالة هيستيريا شديدة الخطورة عليها أولا. ما ضرّ بالثقافة وأنقص من فاعليتها وأنزلها كقيمة حضارية إلى الحضيض، إلا هؤلاء المعلمين الجدد، وملقني دروس العظمة واليقين، الذين يلبسون صباحا كرافاته مزركشة تعميقا للحداثة؟، وفي منتصف النهار، جبة وشاشية لأداء رقصة العصا جيدا، وفي الليل تنبت لهم أجنحة الملائكة. وعندما ينتصر اللا عقل ويصبح مؤذيًا لبلدهم وللإنسانية، يتغيّرون رأسًا على عقب، فكرًا وخطابًا وهندامًا، ويسيرون بلا خجل، في ركب المطالبين بإعدام المثقفين لأنهم إخوان الشياطين، وتدمير مؤسسات الدولة لأنها مرتع الطاغوت. هذا النموذج موجود اليوم بيننا بقوة، في كل العالم العربي، ويبحث له عن منافذ جديدة ليحتل أمكنة ومواقع ثقافية وسياسية بلا يأس ولا كلل. وعندما يتمكنون في المواقع الحية بخطاب وطني ينشئونه بالمناسبة، فهذا يعني بأن المؤسسة الكبرى الضامنة للتوازن، كالدولة مثلا، هي في حالة انتكاسة وخطر. لأنهم يمكنهم أن يبيعوا كل شيء، كل شيء، بلا تردد لمن يمنح أكثر.