قلت في مقالات عديدة من قبل ، أن الإصلاح السياسي رغم كل ما يمثله من أهمية ، لا يمكن أن يؤتي أكله دون إصلاح فكري يسبقه ويمهد له الطريق . الانتفاضات التي حدثت في العديد من بلاد الوطن العربي ، وما أعقبها من إجراء انتخابات نزيهة ، هي الدليل الأمثل على أن الإصلاح الفكري هو الأكثر أهمية .. فالديمقراطية في مجتمعات يسودها الجهل والتخلف والتعصب ، ستفرز نتائج سلبية تتراوح بين الفوضى والحروب الأهلية وصعود التيارات الإقصائية التي لا تؤمن في الأساس ، بمبدأ تداول السلطة . لكن وبالمقابل فإن الإصلاح الفكري غالباً ما يحتاج لإرادة سياسية تمنح القادرين والراغبين ، الفرصة في طرح أفكارهم الإصلاحية . وقبل هذا وذاك ، فإن الإرادة السياسية تظل وحدها القادرة على الترويج للإصلاح الفكري عبر مؤسسات التعليم ومؤسسات صناعة الرأي . الإصلاح الفكري مقدم على الإصلاح السياسي ، لكن الإرادة السياسية تسبق الاثنين من حيث التأثير والأهمية . على سبيل المثال فقد مكنت الإرادة السياسية الهند عقب رحيل الاستعمار وانفصال الباكستان ، من تكريس مبدأ المواطنة على حساب الولاءات الدينية . ورغم واقع الفقر والتخلف والجهل ، فقد تمكنت الهند خلال أقل من خمسة عقود ، من القضاء بشكل شبه كامل على الحركات والتيارات السياسية ذات الخلفيات الدينية التي كان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق راجيف غاندي أواخر الثمانينات ، هي آخر الجرائم التي مارستها . وكل ذلك لم يكن ليحدث لولا تكريس العلمانية السياسية التي تتعامل مع الشعب بوصفه المصدر الوحيد للسلطات ، وتضع المواطنة فوق جميع المبادئ التي تستمد الدولة شرعيتها منها . على العكس تماماً من الباكستان التي ما زالت تشهد عنفاً مذهبياً وحشياً في بعض الأحيان ، رغم وجود دين واحد يشترك جميع السكان في الانتماء إليه ! وفي أوروبا لم تكن أفكار التنوير والإصلاح لتجد طريقها للانتشار ، لولا أن تبنتها الطبقة البورجوازية التي كانت تسعى لتغيير أدوات الإنتاج وإنهاء سيطرة الإقطاع على الحياة السياسية والاقتصادية معا . بالقطع فإن أفكار التنوير ابتدأت في الظهور منذ بدايات عصر النهضة على يد الفيلسوفين فرنسيس بيكون وجون لوك ، ثم على يد إسبينوزا وديكارت وفولتير وكانت ، لكنها لم تكتسب التأثير المطلوب حتى تلقت الدعم اللازم من الطبقة البورجوازية . الإصلاح الفكري يحتاج إلى دعم ، لأنه لا يستطيع أن يفرض نفسه بنفسه . [email protected]