قرأت وسمعت مراراً وتكراراً عبارة تقول «إن العالم العربي والإسلامي سوف يسلك الطريق الذي مشته أوروبا قبل قرون خلت، قبل أن تخرج من الظلمات إلى النور»... لقد عاشت أوروبا منذ القرن ال 16 جملة من التحولات الكبيرة، وسلسلة من المخاضات العسيرة، التي لا يزال عالمنا إلى هذا اليوم يعيش تفاعلاتها وانعكاساتها، إن ما تنعم به أوروبا وبقية دول العالم المتحضر من ثراء اقتصادي، وتقدم علمي، وتفوق حضاري يعود إلى إسهامات الخالدين من رجالات الفكر والتنوير والتجديد الديني من أمثال لوثر، وغاليليو، ونيوتن، وديكارت، وفولتير، وروسو، وكانت، وغيرهم. لقد كان لأفكار وكتابات هؤلاء الفلاسفة دور جوهري في تقليم أظافر الكنيسة، وتحجيم دور الإقطاع، وإزالة طبقات الخرافة، وتحرير العقل والإنسان. السؤال: هل تكفي أفكار الفلاسفة والمفكرين لهدم جدران التخلف؟ طبعاً لا، الأفكار وحدها لا تكفي لتفتح أزهار الحرية والعدل والمساواة، ما قيمة ما لديك من بذور إذا لم يكن لديك شمس وماء؟! لم يكن الفلاسفة وحدهم من حمل المعاول لهدم النظام الرجعي، كانت هناك الطبقة البرجوازية المتنامية والمنافسة لطبقة الإقطاع المتآكلة وحليفتها المؤسسة الدينية، كانت أفكار الفلاسفة المستنيرة وحربهم ضد اللاهوت الديني انعكاساً مباشراً للصراع الاقتصادي ما بين حيوية الطبقة البرجوازية الصاعدة وشيخوخة الطبقة الإقطاعية الآفلة. ماذا عن العالم العربي والإسلامي؟ هل يمكن لطوابير الفلاسفة والمفكرين، الأحياء منهم والأموات، أن يفتحوا لنا كوة للنور والهواء في جدران العتمة السميكة؟ من السذاجة بمكان تعميم التجرية الأوروبية على عالمنا العربي والإسلامي. دعني أسق لك مثالاً بسيطاً ومختلفاً بعض الشيء. ألم تفشل التكهنات الأميركية المتفائلة حول عراق جديد قائم على أسس الديموقراطية والحرية والعدل والمساواة فور إزالة النظام البعثي الديكتاتوري؟ ألم تكن الحرية في العراق وغيره مطابقة للفوضى والتخريب والهمجية؟! ألم تكن الديموقراطية في العراق وغيره مرادفة لصعود الجماعات الدينية والمعادية لقيم الحرية والديموقراطية؟! إذن، ما يجري في الخارج ليس بالضرورة معادلاً لما سيحدث في الداخل، وتلك هي خصوصيتنا الثقافية... لا أدامها الله من خصوصية. المثقف العربي، قديماً وحديثاً، مهمل ومنسي أو مغضوب عليه ومنفي. إن عصارة الفكر وحصاد العقل لا تساوي تأثير خطبة عنترية، أو منزلة فتوى دينية. إياك أن تصدق الخرافة التي تقول إن الخلفاء والسلاطين والولاة كانوا يوقرون العلماء ويقدمون المفكرين، فيما كانت الكنيسة تنصب لهم المشانق وتوقد لهم الحرائق، ألم يُدفن عمرو بن المقصوص حياً؟ ألم يُذبح الجعد بن درهم كالنعاج؟ ألم تُقطع يدي وقدمي ولسان غيلان الدمشقي؟ ألم يُقطع لحم المقفع ويُرمى في النار أمام ناظريه؟ ألم يُصلب الحلاج وتُقطع أطرافه ويُجلد بالسياط ويحرق بالنار؟ ألم تُحرق كتب ابن رشد؟ ألم يُقتل السهروردي؟ ألم يُحارب ابن حزم وابن ماجه وابن طفيل؟ ألم يُضرب أبو حنيفة ويسجن ويسمم؟ ألم يُعذب ويُضرب ابن مالك والشافعي وابن حنبل؟ لا يزال المثقف إلى اليوم مطارداً... ومحارباً... ومستباحاً... ألم يُقتل مهدي عامل وحسين مروة؟ ألم تُغرس سكينة غادرة في عنق نجيب محفوظ؟ ألم يُشنق محمود طه بأمر من جعفر نميري؟ ألم يُسجن أحمد البغدادي؟ ألم يُحكم بردة نصر أبو زيد؟ ألم يهدد سيد القمني بالقتل؟ ألم يحارب علي عبدالرازق وطه حسين ومحمد أراكون وغيرهم؟ قائمة طويلة جداً من شهداء الكلمة والفكر، قديماً وحديثاً، لا تتسع لها مقالة، أو اثنتان، أو ثلاث. زبدة الكلام، لقد أينعت أفكار فولتير، وروسو، وكانت، ودارون، وفرويد، وغيرهم، لأنهم عرضوا أفكارهم تحت الشمس الساطعة، وبرضا من السلطة الحاكمة، وبقبول من عامة الناس. أما هنا، فلا يزال المثقف الحر مكروهاً من السلاطين، ومنبوذاً من رجال الدين، بسبب انحيازه للتغيير، ومعارضته للجمود والتقليد. تذكر... لا قيمة لفكر ينازعه السلطان، ويحرمه الفقيه، ويهمله الشعب. [email protected]