تحدثت في مقالي الأسبوع الماضي عن الأستاذ الجامعي ودوره الإنساني المنتظر والمتوقع منه، وأكدت على أن ذلك الدور "المُلهِم" يتخطى الدور التلقيني البارد، الذي يمارسه بعض الأساتذة، والذي يظنون أنهم به قد أدّوا ما عليهم. كما أكدت على أن هذا الدور يبدأ من القاعات الدراسية، ويتخطاها إلى المحيط الجامعي، بحيث يصبح الأستاذ موجهًا ومشاركًا لطلبته في طموحاتهم وتطلعاتهم العلمية والبحثية. وأخيرًا قلت إن هذا النوع من الأساتذة هم من سيتركون أثرًا وبصمة في نفوس طلبتهم تدوم طويلًا جدًا. مما أدهشني وجود تلك الروح المحبطة (بفتح الباء وكسرها) لدى مجموعة من الناس، أتمنى ألا تكون كبيرة في مجتمعاتنا، تجاه أي تغيير نحو الأفضل نبشر به أو نتمناه أو نعمل من أجله. فقد وردني من أحدهم أن مقالي "صرخة في واد"، وما تفضلتم به ليس إلا "تنظير لا يلبث أن يتلاشى"، وأن "غالبية الأساتذة لا يبالون ولن يلفت الموضوع انتباههم، وسيبقى الأمر كما هو عليه".. لكن لم تزدني مثل هذه الأقوال إلا إصرارًا على صحة ومصداقية ما أؤمن به وأدعو إليه. وممن علّق على ما كتبت أحد طلابي (سابقًا) وزميلي الطبيب "سامر عثمان". ما سأنقله حرفيًا هو موجود على موقعي في الفيس بوك. يقول د. سامر "أنا أحد طلاب الكلية، وكنت أبحث كغيري من الطلاب عن الطريقة التقليدية التي تعودت عليها بمراحل الدراسة ما قبل الجامعية، أي الطريقة التي يكون فيها الأستاذ الجامعي هو محور لكل شيء"، وأردف قائلًا: "كنت أعتقد أن تلك الطريقة ستوصلني للنجاح في نهاية المطاف وهو ما يسعى له الطالب دائمًا، لا أنسى كم هي المرات التي شرحتم لنا غايتكم من التعليم الحديث"، وأكمل.. ولم أشعر بفائدة ما كنت أعانيه إلا بعد التخرج من الكلية، فعندما تتخرج ستكتشف أنك في دوامة البحث عن المزيد من العلم، وأنك لم تعد ملاصقًا للأستاذ الذي كان يلقنك كل شيء"، وأنهى تعليقه قائلًا: "فإذا كنت قد تعلمت على يدي أستاذ يوجهك ولا يلقنك ستجد نفسك قادرًا على أن تصبح محورًا لتعليم نفسك والاعتماد على قدراتك، وعدم التوقف في المسير لطريق النجاح". قد يكون ما تقدم تعليقًا من زميل مُحب أو متعاطف، لكن اقرأوا ما قاله الباحث شينجو كاجيمورا، حيث نشرت مجلة (Nature) في نسختها العربية بتاريخ 30 سبتمبر 2014م، ترجمة للقاء معه، وهو الباحث الياباني المقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية والحاصل على أحد الجوائز الرئاسية الأمريكية للعلماء والمهندسين في بداية مسارهم المهني (PECASE). وسأنقل لكم تلخيصًا لبعض النقاط المهمة من تلك المقابلة حرفيًا، مع تعليقي بين قوسين.. خلال نشأتي في ضواحي طوكيو كنت أخطط للعمل مع الحيوانات، ربما كحارس لحديقة قومية، كحديقة الحيوان، أو متحف للأحياء المائية مثلًا. لم يحصل أي فرد في عائلتي على دراسة جامعية، أو درجة علمية. لم أكن أعلم حتى بوجود وظيفة العالِم أي الباحث (هكذا يبدأ الإنسان بسيطًا في طموحاته، ولكن يحتاج إلى من يوقد تلك الشعلة المختبئة في داخله وقد كان). كان لديَّ موجِّهان جيِّدان في جامعة طوكيو، فأرشداني إلى العلوم، وفوجئت بمدى حبي لها. (وهذا سرّ تفوقه وانتقاله من طالب ياباني مقيم للأبد في اليابان وبطموح محدود، إلى باحث في أمريكا يحصد أرفع الجوائز على أبحاثه في أمراض السكر والسمنة ومشاكلها). عند سؤاله عن سر نجاحه العلمي؟ أجاب: "الشغف.. فأنا لست عبقريًّا، ولكنني حقًّا أحب العلم، ولذلك.. لا أشعر حقًّا أنها مجرد وظيفة". (إذًا فهو ذلك الشعور الإنساني الذي زرعه فيه ذانك الموجهين قبل مغادرة اليابان، وأثمر أسلوب التعلم حبًا وشغفًا بالعلم). إن هناك واجب عظيم ومسؤولية ضخمة تتحملها جامعاتنا حيال الانتقال بالأساتذة من التلقين إلى التوجيه.. يا سادة، نريد أن نرى أمثال "شينجو كاجيمورا" بالمئات والآلاف.. إنني على قناعة تامة أن هناك الآلاف ممن ينتظرون من يوجههم، ويوقد تلك الشعلة المخبوءة في دواخلهم.. أرجوكم توجهوا إليهم توجيهًا وتحفيزًا.. فالوطن قدم الكثير لمثل هؤلاء، وعلينا أن ننتهز الفرص المتاحة، التي قد لا تتكرر كثيرًا، وبالله التوفيق. [email protected]