قَلَّ أن نجد جامعاً لتراثنا الشِّعريِّ لم يتحدَّث عن غزارة ذلك النَّتاج الذي خلَّفه الأدباء عبرَ عصورٍ مضت، ومن يعد إلى الموسوعة الأدبيَّة للمستشرق "كارل بروكلمان" التي وَسَمَها ب "تاريخ الأدب العربي" سيجد نفائس المخطوطات التي حَوَت ذلك التُّراث بصورةٍ بديعةٍ، ليأتي بعد ذلك مَنْ ينفضُ الغبارَ عن تلك المخطوطات، ويحيلها إلى ذخائر محقَّقة تحقيقاً علميَّاً، يبرز قيمتها الأدبيَّة وأثرها في تاريخ الأدب العربي. ولا غرابة من غزارة النَّتاج الشِّعري في أدبنا القديم أو المعاصر، فهو نفثات الوجدان، وبوح المشاعر، وآهات الضَّمير الإنساني الذي لا يهدأ ولا يكلُّ ولا يملُّ مهما تباعدت السُّنون، وتنوَّعت الأحداث. قال أحد الأدباء المجرِّبين لدفع غائلة الحقد والحسد: اصْبِرْ على مَضَضِ الحَسُو دِ فإنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ فَالنَّارُ تَأْكُلُ نَفْسَهَا إِنْ لم تَجِدْ ما تَأْكُلُه وقد قيل للحسن البصري -رحمه الله- أيحسُدُ المؤمن أخاه، قال: لا أبا لك، أنسيت إخوة يوسف عليه السَّلام!! وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما -"يَحْسُد أَحَدُهم أخاه حتى يقع في سريرته وما يعرف علانيَّته، ويتعلَّم منه في الصَّداقة ما يعيِّره به إذا كانت العداوة. وقال بعض الأدباء :"ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، له ضيقٌ دائمٌ وهمٌّ لازم وقلبٌ هائمٌ. والتَّفسير الحقيقي لظاهرة الحسد أنَّها تعني الاعتراض على نعم الله تعالى التي يهبها لعباده .. وقد صور ذلك أحد الشُّعراء حين قال لحاسديه: أَيَا حَاسِدًا لِي عَلَى نِعْمَةٍ أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الْأَدَبْ أَسَأْتَ عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ لَأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ فكان من اللهِ أَنْ زَادَنِي وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ وقد يكون للحاسد فضلٌ في إظهارِ نعمةِ المحسود، حيث أنَّ الفضائلَ مُقتضيةٌ للحسدِ .. وفي هذا يقول أبو تمام: وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَة ٍ طُويتْ، أتاحَ لها لسانَ حسودِ لَوْلاَ اشتعَالُ النَّارِ فيما جَاوَرَتْ ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ وقال أَحدُ الشُّعراءِ: حَسَدُوا الفَتى إِذْ لَم يَنَالُوا سَعْيَهُ فَالقَوْمُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ وقال شاعرٌ آخر: كلُّ العَدَاوَاتِ قد تُرجَى إماتتُها إلّا عَدَاوة من عاداكَ من حَسَدِ وهذي الرُّؤى التي استلهمها الشُّعراء هي جانب من تراثنا الشِّعري الذي ركز على أدقِّ المشاعر وأكثرها ملامسةً للعاطفة الإنسانية فصوَّرها أبدع تصوير.. وللحديث بقيَّة إن شاء الله. * الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة