من أهازيج رمضان زمان والتي كتبت عنها في مقالتي الماضية، إلى وحشة فراقه والاستبشار بإشراقة العيد، ولعل من هو اليوم في أربعينيات العمر وأكثر، يتذكر روح حاراتنا القديمة حيث يخرج الأطفال بعد صلاة العيد بملابس جديدة، ويؤدون الألعاب الجماعية، ويطوفون على المنازل (أعطونا عيدية.. عاد عليكم) حتى يفوزون بالحلوى والعيدية، أما الكبار فتجمعهم لعبة "المزمار" الشهيرة في الحجاز، وخلف الرواشين تبتهج النساء بأجواء العيد وقد زين المجالس للمعايدين. لكن ماذا عن رمضان والعيد في رؤى الشعراء؟ لاشك أن في الشعر العربي حالة من الذوبان في نفحات شهر الصوم عبادة وأخلاقًا ورجاءً، مثل ابن الرومي في وداع رمضان: كيف لا نبكي لشهر .. مرَّ بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنّا .. قد قُبلنا أم حُرمنا كذلك شاعرنا أحمد سالم باعطب، يبدي تعظيمًا للعشر الأواخر: هذه العشرُ التي في حجْرها .. هام بالفجرِ صِباها غَرِدا كم إليها أسرعَتْ أحلامنا .. تستقي الغفران فيها رَشَدا أما عن العيد فكلنا نذكر شطر البيت الأشهر للمتنبي (عيد.. بأي حال عدت يا عيد) حيث تتباين مشاعر البشر عامة في العيد والشعراء خاصة، سرورًا وألمًا ولوعة، والإحساس بالفقراء واليتامى، والرجاء في قبول الصيام والقيام، فها هو شيخ الشعراء عبدالله بن خميس يسجل نفحة صادقة: من مهجة ظمئت لله تمجيدا وقفت مدكرًا استلهم العيدا منها سمت في رحاب الطهر خاشعة وجردت من سوي الايمان تجريدا أما شاعرنا الكبير حسين عرب فنراه يرسم بريشة الشعر بهجة العيد: أقبل العيد مستفيض الجلال مستنير الشوق والأصال أصبحت من صباحه الناس في بشر وأمست من ليله في اختيال والإنسان كلما تسربلت منه مراحل من العمر، يشده حنين الذكريات ولسان حاله قول "أبوالعتاهية": (ليت الشباب يعود يومًا)، لكن الشعراء بإبداعهم أكثر قدرة على تصوير مخزونهم الوجداني.. كالشاعر المكي إبراهيم خليل علاف الذي تغازله ذكريات العيد ببساطة أحلامها: يشاغلنا العيد المؤمل بالمنى فننضح أشواقًا ونحكي عجائبا ونرقب زيًا مبهجًا متلونا ونعلًا صقيلًا يستفيض جواربا والحزن حالة إنسانية، لكنه يعلو في كوامن الشعراء وحروف أشعارهم، وكأنه عند بعضهم قد سلب بهجة عيدهم، فهذا شاعرنا رقيق الشعر والوجدان يحيى توفيق حسن، يبدي أنّات وحرقة تنهيدًا على ذكريات الطفولة وكأنها ولّت ومعها الفرح: قد كان عيدًا نظل العام نرقبه يهفو له الطفل والأشياخ والغيد واليوم يدنو فلا الأفراح تسكننا ويسكن القلب أنات وتنهيد أيضًا نلمس ذلك الحزن في (عيد) شاعر طيبة عبدالرحمن رفة: ياليل عيدي لم يعدي مؤنسا في ظل بأس قاتل وعنيد أما حال الأمة اليوم فيتجسد في أوجاع الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين: هذا هو العيدُ، أينَ الأهلُ والفرحُ ضاقتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟! وأينَ أحبابُنا ضاعتْ ملامحُهم مَنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟! هكذا هي صور العيد بين تغريدات الفرح وأنات الحزن، تنطق بها حروف الشعراء معبرة عن الوجدان الإنساني.. والمقام في ذلك يطول كثيرًا، لكن لم يعد لي متسعًا إلا الختام بأصدق التهاني والدعاء.. تقبل الله من الجميع وعيدكم مبارك. ---------------- (*) كاتب وباحث أكاديمي [email protected]