* لعله من الصعب على النفس إيراد أمثلة من السياق الحضاري والسياسي الغربي وخصوصًا في هذه الحقبة المؤلمة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، وسوف أورد مضطرًا مثالين من السياق الإنجليزي للتدليل على قدرة المؤسسات هناك على وضع الضوابط التي تحفظ للمجتمع كيانه مترابطًا ومتماسكًا على الرغم من وجود اختلاف في الرؤية إزاء الأحداث التي تشكّل انعطافات هامّة قد تؤدّي بالأمّة إلى الضعف إن لم يكن الانهيار في حالة عدم توفر ضوابط يتعارف المنتسبون إلى المؤسسة المختلفة على الرجوع إليها في أوقات الأزمة، والمثال الأول المدلل على الوعي الموجود عند هذا الآخر، يرتبط بأزمة السويس التي حدثت سنة 1956م، والتي أدّت إلى استقالة زعيم المحافظين آنذاك أنتوني إيدن Eden، وكان حزب العمال بقيادة زعيمه التاريخي هيو جيتسكيل Gaitskell ضد سياسة المحافظين إزاء الأزمة. وتجدر الإشارة إلى أنه كان داخل الحزب مجموعة تعارض سياسة إيدن. * ويذكر نائب "جيتسكيل" العمالي -آنذاك- هارولد ويلسون في مذكراته الموسومة: the making of prime minster إننا كنا حريصين على عدم توجيه نقد شديد لسياسة "إيدن"، أخذًا بسابقة بأن ذلك النقد في حالة وجود حرب تخص الوطن فإن النقد الشديد يدخل في باب خيانة مبدأ الولاء للجيش الذي مرجعيته هو ملكة البلاد. * وتذكر الزعيمة المحافظة "مارجريت تاتشر" في الجزء الأول من مذكراتها الموسوم "الطريق إلى السلطة" بأنها عندما كانت زعيمة للمعارضة 1975-1979م، وكانت في دواننغ ستريت حكومة أقلية بزعامة "جيمس كالاهان" وكانت بريطانيا تمر بأزمة اقتصادية، فرأت من دواعي الحكمة أن تستشير الزعيم الأسبق للحزب "هارولد مكميلان" Macmillan 1957-1963، فلما اجتمعت به في منزل ابنه السياسي "موريس مكميلان" نصحها بألا تكون شديدة في توجيه النقد لحكومة الأقلية العمالية؛ لأن بريطانيا وطن الجميع -محافظين وعمالًا وسواهم- تمر بأزمة شديدة. * لقد استدعيت هذين المثالين من الذاكرة، فلقد وجّه بعض الكتّاب العرب أخيرًا نقدًا شديدًا لبعض أطياف الحكومة الفلسطينية، ووصل بعضهم في نقده إلى تناسي أن الحركة الصهيونية هي العدو الحقيقي للأمة، وأن قتل الأطفال وحرقهم بما يذكر بالمحرقة النازية "الهولوكست" هو جريمة كبرى تستوجب تناسي الخلاف مع هذا الطيف أو ذاك، والتوجه نحو رفع هذا الحصار الإسرائيلي الذي لا تعاني منه القيادات بمقدار ما يعاني منه الفرد العادي الذي يُهدم بيته، ويُحرم من تناول جرعة ماء صالحة للشرب، ويشاهد مساجده ومدارسه ومستشفياته وهي تتهاوى أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية، والذي يتحمّل الغرب جزءًا كبيرًا من المسؤولية لأنه يوفر السلاح المتطوّر لسلطة احتلال، فهل يرضى البريطانيون مثلاً بأن يزود بلد ما الجيش الجمهوري الايرلندي بالسلاح؟ وكيف تتصرف الولاياتالمتحدة إذا ما تيقنت أن أيادي خفية تزوّد الإرهابيين بما يحتاجونه من معلومات أو مال أو سلاح؟ * إن هذا الوقت لا يتحمّل عند العقلاء تصفية الحساب مع فصيل قد نختلف معه، وأن هذه التصفية لا تخدم إلاّ المؤسسة الصهيونية الإرهابية.