img src="http://www.al-madina.com/files/imagecache/node_photo/banaja_0.jpg" alt="«ماعت» و"إسفت"!" title="«ماعت» و"إسفت"!" width="120" height="152" / لم يذهب "رفيق" للإدلاء بصوته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت بمصر، من منطلق أنه كان سيذهب ليعطي صوته للرئيس السيسي، وطالما أن فوزه مؤكد -نظرًا للشعبية التي يتمتع بها- فلا حاجة لكي يحمّل رفيق نفسه عناء الذهاب، وأظنه منطق كثيرين سواه. الشخصية الجماعية المصرية ذكية بالغريزة، هذا راجع إلى مألوفية واقعها الاجتماعي السياسي الذي ألفته على مدى 10 آلاف عام، باعتبارها أقدم الجماعات على الأرض، ممّا هيّأ للغريزة بناء استجابات لا شعورية ذكية دون حاجة لإعمال الفكر. من خصائص هذه الشخصية أيضًا كراهيتها للفوضى وانفراط الأمن، المهددان للحياتين الاجتماعية والاقتصادية، كل الناس بالتأكيد تكرهما، إلاّ أن كراهتهما في مصر أعلى من المعدل، وإليك بحث صغير لإثبات ذلك: في اللغة المصرية القديمة (الهيلوغريفية) توجد كلمة لغز لا يزال معناها الدقيق يُحيِّر الدارسين هي "ماعت"، تحمل معاني عدة مختلفة، يمكن أن تعني الخير، والصواب، والحق، والفضيلة، والعدل! مدلولها الدقيق غير متيقن منه، خاصة أن دراسات اللغة دلّت على أن جذرها ومصدرها قد يعني الاستقامة! وبالتالي كل ما يناقضها من قول، أو سلوك، أو رأي هو التواء عن الحق والصواب. ولكل كلمة في اللغة ما يقابلها، الخير مقابل الشر، والصدق مقابل الكذب، ... إلخ. ومن محاسن الصدف أن مقابلها في الهيلوغريفية "إسفت" معروف بدقة ولا خلاف على معناه، لا معنى آخر له سوى (الفوضى)!! لهذا يرجح بشدة أن الماعت قد تعني الترتيب الصحيح الذي تنتظم به الأشياء، كل نقائض الماعت مشمولة في كلمة واحدة هي الفوضى! في التفكير القديم الذي توارثته الأجيال لا تصوّر، ولا حالة أسوأ من الفوضى، المعنى الجامع لكل الشرور، لذلك قد يُقبل الأقل ضرار منها حتى إن لم يطابق الماعت، هذا ولا شك أحد عوامل تثبيت الصورة الفرعونية للسلطة المركزية، ثم تولى التفكير الفلسفي القديم تطويره إلى أيدلوجية لخدمة ذات الغرض، الماعت فيها ليست حقائق تستخلص من الواقع بالنظر، إنما حقائق كونية فوق العقل البشري تدرك بالاتصال المباشر بمصدرها الكوني، اتصال غير متاح إلاّ للفرعون ونخبته البيروقراطية والعسكرية، هذه النخب في كثير من العصور خاصة الأولى منها كانت ذات مؤهلات معرفية مميزة تبرر اقتناع عامة الناس بذلك المنطق، إلاّ أنه سَرى حتى في الأحوال التي لا تتمتع فيها النخب بتلك المؤهلات. تغيرت العقائد والأيدلوجيات على مر العصور إلاّ أن الموقف المبدئي الذي قر في الوجدان الشعبي لم يتغير بسبب الثبات النسبي لمعطيات المكان والزمان، وأدى إلى حالة لا حاجة حقيقية فيها لعرف أو قانون (وإن وجدا على الدوام بشكل أو بآخر)، ماعت دائماً كانت قرينة وحليفة لمن عنده أدوات قمع الفوضى، لا يحوز الماعت غيره. الرئيس السيسي ضرورة مرحلية، الذكاء الفطري الشعبي يعلم هذا بلا معلم، لذلك فالتفويض الذي حازه حقيقي لا زيف فيه، استند إلى استجابة عفوية استدعاها الموروث الثقافي، غير أن لا أحد اليوم يعتقد بأن الماعت يملكها آحاد كنتيجة طبيعية لمواقعهم، إدراك ما هو ماعت وما هو إسفت، والتمييز بينهما لم يعد ملكًا حصريًّا لنخبة، ربما هذا هو جديد التحديث.