إن أحداث أوكرينا التي استقطبت الاهتمام العالمي لشهور متتابعة لا تمثل صراعاً محلياً فقط على السلطة وعلى الانتماءات الإستراتيجية لتلك البلاد الشرق أوربية المتاخمة لروسيا والتي كانت يوماً جزءًا من الإتحاد السوفيتي السابق ، بل هي وبامتياز مظهر صريح من مظاهر صراع عالمي مستعر يدور حالياً على شكل النظام العالمي الجديد الذي أصبح جلياً أنه سيكون متعدد الأقطاب بعد تراجع مكانة الولاياتالمتحدةالأمريكية العسكرية والاقتصادية والتقنية ، التي بقيت متفردة لعقود من الزمن ، رغم استماتتها في الحفاظ على عالم أحادي القطبية ، ولكن هيهات هيهات ، فاللاعبون كثر منهم الصين التي هي في طريقها لتكون أقوى اقتصاد عالمي، ومنها روسيا الآخذة في فرض وجودها كقوة عظمى عالمياً ، ومخاطر هذا الصراع يعنينا من حيث أن روسيا تريد تعزيز وجودها في بلادنا العربية من خلال دعم النظام السوري المجرم ، وفرض واقع جديد على أرض الواقع مستفيدة من تراجع دور من كانت الدولة العظمى فأنهكتها الديون والحروب ودخلت في طور التراجع الحضاري. الأزمة الأوكرانية أثبتت للعالم مجدداً أن ما يسمى بالديمقراطية أصبحت لعبة مكشوفة في يد الدول الكبرى تتدخل من خلالها في الشؤون الداخلية للدول الضعيفة ، فتكون نتائجها مقبولة إن جاءت بالأشخاص المقبولين لدى عواصم العالم الغربي ، وإلا فإنها مرفوضة النتائج ، ويلي ذلك جهود متتابعة لفرض أنظمة حاكمة تابعة على الشعوب من خلال دعم فئات موالية للدول الكبرى. ففي 2004 م قامت الولاياتالمتحدة بدعم ما سمي حينها بالثورة البرتقالية لكن تلك المسرحية لم تؤتِ أكلها فأصرت الإدارة الأمريكية للاستمرار- كما في تصريح فيكتوريا نولاند نائبة وزير الداخلية الأمريكي- في الدعم المالي للجهات الموالية لها ب 10 مليارات دولار على مدى العشر سنوات اللاحقة ( 2004- 2014 ) كانت الأموال تغدق فيها على أفراد الحكومة الأوكرانية و للمؤسسات غير الحكومية الساعية لتحقيق أهداف واشنطن في أوكرانيا. وعندما رفض الرئيس الأوكراني يونوكوفيتش انضمام بلاده للإتحاد الأوربي قامت الولاياتالمتحدة بتحريك طابورها الخامس في أوكرانيا مطالباً بالانضمام وقامت القوى "العميقة" و أشعلت العنف في المظاهرات. وعلى أثر تلك الفوضى "الخلاقة" عينت الإدارة الأمريكية حكومة تابعة وزعمتها قوى ديمقراطية لمجابهة الفساد ، و أخذت تلك الحكومة تتهدد الموالين لروسيا من شرائح المجتمع الأوكراني ، مانحة روسيا أعذار التدخل والتي نجم عنها انضمام شبه جزيرة القرم ( التي كانت يوماً إسلامية ) لروسيا رغم الرفض الغربي الذي أعتبر الأمر احتلالا وضم أراضٍ أوكرانية لروسيا ، فكان الموقف الروسي عملياً والغربي احتجاجات كلامية ووسم لسكان القرم بالإرهاب ، بينما تصف النازيين الجدد في أوكرانيا بالقوى الديموقراطية. والغرب لم يعد على قلب واحد بالنسبة للأزمة الأوكرانية وسواها ، فدعوة الولاياتالمتحدة لتطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا بسبب الأزمة تلقى معارضة ألمانية ترى فيها إضراراً بالمصالح الأوربية والألمانية خصوصاً كما فيها أضرار بروسيا و جعلت المستشارة الألمانية ميركيل في وضع حرج لا تحسد عليه في الداخل الألماني لأنها أعطت انطباعا أولياً بأن ألمانيا ستكون في ركاب الإدارة الأمريكية غير المشروط بالنسبة للأزمة الأوكرانية ، و يرى الخبراء لو أن روسيا شعرت بأن الغرب سيحتل أوكرانيا من قبل تنصيب حكومة يقال عنها ديمقراطية فإن روسيا لن تتردد في احتلال أوكرانيا ، ولن يستطيع الغرب أن يفعل شيئاً إزاء ذلك سوى اللهم اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل النووية ،و تلك قصة لا تجدي معها أكاذيب الديموقراطية قد تعيد العالم بأسره للعصر الحجري. روسيا بالمقابل اتخذت قراراً بالتخلي عن اعتبار الدولار الأمريكي عملة إستراتيجية وشرعت في استخدام الروبل الروسي واليوان الصيني كعملة وقعت بها صفقات لتزويد الصين بالغاز الطبيعي لعشرين سنة قادمة ، بل إن بوتين رأى في الخلاف الأمريكي الألماني فرصة في تشتيت حلف الناتو والإتحاد الأوربي. مما لا شك فيه أن روسيا كدولة عظمى في طريقها للصعود السريع ، و أن مطامع ظهورها تشمل بلادنا العربية بما لا يسرنا ، و أن الولاياتالمتحدة في حالة جزر حضاري ، وأن أكذوبة الديمقراطية أصبحت مكشوفة للجميع ولن تشكل لدى الشعوب بعد الآن إلا صورة ذهنية واحدة فهي أداة هيمنة بيد الدول الكبرى لسحق الشعوب المستضعفة.