الفضول سمة يُختلف على تقييمها، هي عندي من الصفات الحسنة، لهذا لم يضايقني ما ورد إليَّ من استفسارات عن المقهى الذي أجالس فيه "رفيق"، أو عن رفيق شخصيًا. وكنتُ سأُفضِّل عدم الإجابة على السائلين لأني متأكد من أن الخيال أشد إمتاعًا من الواقع، لولا إني قررت ألا أحرم المقهى من دخول التاريخ، باعتبار أنه سيكون محلًا لعنايته، لأن شخصًا مُهمًّا مثلي يُواظب على الجلوس فيه، وألا أحرم رفيق من ذات الشرف، فلا أمل للمسكين في دخوله إلا من باب علاقته بي. للمقاهي في مصر دور اجتماعي في غاية الأهمية، من زاوية كونها الأماكن العامة الوحيدة المتيحة للقاء، البيوت ليست المكان المناسب لهذا الغرض. اكتسبت المقاهي في الأصل هذا الدور في الأحياء الشعبية، ثم جلبت الجاليات الأجنبية فكرة النوادي، أما ارتباط النوادي بالرياضة فجاء على هامش دورها كمنتديات، وفيما بعد ظهرت المقاهي التي تخدم الطبقات غير الشعبية، والكثير منها أنشأها مهاجرون من البلقان قبل أن تضطرهم الخمسينيات والستينيات إلى الهجرة المضادة. أما النوعية الجديدة من المقاهي المعروفة ب"الكافي شوب" فلا طعم لها ولا روح فيها، إلا إذا تميّزت بأنواع خاصة من المأكولات أو المشروبات، وهذا أحد ثلاثة أسباب ربطتني بالمقهى الذي أرتاد، طبق سلطة البطاطس الذي يُقدِّمه لا يُعلى عليه، إلى جانب قربه من منزلي، السبب الأخير القلّة النسبية لعدد روّاده، وهي ميزة لعُشّاق العزلة كارهي الزحام. مع ذلك، ولأسباب مادية بحتة لن أُصرِّح باسم المقهى أو أُحدِّد مكانه بدقة، مع اعتذاري للقارئ ذي الفضول فوق المتوسط، لأن هذا يدخل في باب الدعاية لمحل تجاري، ولستُ على استعداد لتقديم دعاية مجانية لأصحاب المحال، ما لم يدفع صاحب المقهى ثمنًا مجزيًا مقابلها، أو يُقرِّر جعل جلوسي وطلباتي بمقهاه مجانية مدى الحياة، ولن يندم، إذ لا فرصة له لضمان مقعد في التاريخ غير هذه، وإلى أن يقتنع سأكتفي بالقول بأنه قريب من منزلي ويقع على شارع مهم في الحي الذي أسكنه. أما رفيق، فموضوع آخر وحالة استثنائية بين أصدقائي، لأني أغلقت باب الصداقات منذ 40 سنة!، كل من تبقَّى منهم اليوم عرفتهم على مقاعد الدراسة، لا وجه جديد بينهم عدا رفيق، وكان طريق معرفتي به هواية مشتركة، جمع الطوابع!، التقيتُ به لأول مرة بدكان مسيو خاتشو، أهم تجار الطوابع في القاهرة، وأحد أهمهم بالشرق الأوسط، تستطيع أن تعتبره ستانلي جيبون مصر، وذلك عندما وجدت الاثنين (رفيق وخاتشو) مشتبكين فيما يُشبه الخناقة الكلامية حول الأسعار، الأمر المنطقي والمتوقع، فرفيق كما بتَ تعرف شديد الحساسية نحو كل ما يتصل بشؤون العملة، بينما خاتشو لا تأخذه في الأسعار لومة لائم، إلى جانب سهولة استثارته بسبب عصبيّته، صفة لا يستحب لتاجر التحلي بها، وربما كانت أحد المبررات التي حالت بينه وبين التطور بأعماله إلى مستوى منافس لستانلي جيبون. القارئ المُدقِّق قد يقول: ها أنت قدّمت دعاية مجانية لمسيو خاتشو، لم أفعل، لأنه تخصص في تجارة لا تروجها دعاية.