تتردد في وعينا الثقافي عبارة (لا تنشر الغسيل)، وهي كناية عن وجوب كتمان الأمر، وعدم إذاعة المشكلات. سار الرُّكبان بهذه العبارة، وتداولتها العامة والخاصة، حتى استقرت في ذاكرة المجتمع، وأصبحت رُكنًا أساسيًا من أركان التربية. وهذه العبارة في استخدامها الأوَّلي الذي يفهمه الجميع، هي عبارة تربوية جيدة ، فأنت إذا رأيت امرأة أو رجلًا يَحكي مشكلاته الأسرية أمام الخلق، ويفضح ما ستره الله من شأنه مع زوجه أو أسرته، تُبادره بقولك (لا تنشر غسيلك)، فالمعنى الأوَّلي لهذه العبارة، هو صورة نَشْرِ غَسيلِ ملابسِ الإنسانِ على الحبل، والدلالات التي تتولد من هذه الصورة، أنَّه عادةً ما يكون نشر الغسيل في وضح النهار، حيث الشمس الساطعة التي تقوم بتجفيفه، وفي الصباح تكون الرؤية واضحة أمام الجيران، فيرون ملابسك التي تكشف حالك، فقد لا تكون الملابس نُظِّفت بالشكل المطلوب، أو قد تكون ملابس رخيصة فتراها عين جارٍ فضولية، فيبدأ في إذاعة أخبارك لكل من يعرف أو لا يعرف من الجيران وغيرهم، عن قلة نظافتك وعدم عنايتك بنفسك، إلى غير ذلك من الحكايات التي قد ينسجها خياله المريض، أو قد تكون الملابس رخيصة الثمن، أو ممزَّقة مهترِئة، فيعرف حالتك المادية، فيؤلِّف حولك القصص والروايات التي تفضح حالك، ويرويها للقاصي والداني، إلى غير ذلك من الدلالات التي تكشف حالك وسترك، فتُصبح مضغة في الأفواه. وهذا التحليل وما يرمي إليه كله صحيح، يجب أن نضعه في الحسبان، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالأمور الأُسرية والأحوال الشخصية. لكن دلالات هذه العبارة بقدر ماهي نافعة في الأحوال السابقة، تكون مُضِرَّة في الأحوال الإدارية، وهي من وجهة نظري من أكبر أسباب الفساد الإداري. فقد تحصل مشكلة في إدارة من الدوائر، وتسعى جاهدًا لحلها داخل المجموعة الإدارية، لكنَّ المشكلة لم تُحل، فتمارس حقك الطبيعي في رفعها للمسؤول الأعلى، فما أن يسمع رئيسك بالخبر، حتى ترى اللَّوم في عينيه، والتقريع في أسلوبه، مُلقيًا عليك عبارة (كان عليك أن لا تنشر غسيلنا)، مع إخراجها عن مدلولاتها السابقة، ووضعها في مدلولٍ إداري مخترع، يُقصد به عدم رفع أي شكوى لخارج الإدارة، حتى لو لم تجد لها إدارتك حلًا، بمعنى ارض بالظلم وضياع الحق، فهو أفضل من إظهار مشكلات الإدارة، فمديرك يريد أن تظل إدارته لامعةً براقةً من الخارج، وإن كانت تنضح بالفساد الإداري في داخلها. وعند هذا الوضع أقول لك بكل ثقة: (انشر غسيلك) ولا تُبالي، لأنَّ هذه العبارة في هذا السياق الذي استخدمه رئيسك هو سياق لا يتوافق مع المدلول الأصلي للعبارة، وأنت لو استجبت لكلامه، تُصبح المعين الأول له على استشراء الفساد في الإدارة، (انشر غسيلك) للإدارة الأعلى حتى ينصلح الوضع، فإذا كانت كل إدارة تختزن مشكلاتها ولا تجد لها حلولًا جذرية، فهذا معناه نخر المشكلات في عظام تلك الإدارة التي ما تلبث أن تَهوي وهي واقفة. (انشر غسيل) إدارتك المليء بالأوساخ، فربما كان المسؤول يمتلك غسالةً أكثر تطورًا من غسالة إدارتك، التي أصابها عطل، أو كانت من الطراز القديم الذي يفتقر للتقانة العالية، فيعمل ذاك الرئيس على تنظيف غسيلك بأحدث الوسائل، فتشعر بالراحة والاطمئنان وتصبح أكثر إنتاجية، وتَحِل بإدارتك السعادة وراحة البال، لذا (انشر غسيلك ولا تُبالي). [email protected]