أتابع اليوم حديثي عن أزمة اللغة العربية مع أبنائها ومناهج تعليمها -التي كتبت عنها كثيرًا- تلك المناهج التي تقدّم اللغة العربية بصورة متخلّفة، وبأساليب عقيمة لا تعطي ثمارًا غير النفور منها. ونماذج الشعر القديم بكلماته المعقّدة، وصوره البعيدة عن الفهم تقف حائلاً بين أبنائنا وحبّ لغتهم. ولا أقصد بهذا ألاّ يقفوا على نماذج شعر قديم، بل أدعو إلى حسن الانتقاء. إذ إن هناك نماذجَ سهلةً وجميلةً، وأساليبَ مفهومةً، وصورًا جماليَّةً بلاغيَّةً رائعةً. فلا ينبغي أن يقف الاختيار الخاطئ للنماذج الشعرية والنثرية عقبة أمام النشء، تدفعهم للهرب من لغتهم. كما لا يعقل أن يتعلّم أبناؤنا قواعد اللغة كما تعلمّناها وتعلّمها آباؤنا. إذ لا بد من استحداث وسائل وطرق جديدة في ذلك. وكما يخضع معلّم اللغة الإنجليزية لاختبارات تؤكّد صحة نطقه، وإجادته للغة. لا بد أن يخضع معلّم اللغة العربية لذلك. فكيف نقبل أن يدرّس اللغة العربية معلّم لا يجيد نطق الحروف. ويعاني من لثغة في أحدها، كأن ينطق السين ثاء. والراء لامًا، أو غينًا. كما لا بد أن يهتم العلماء، والمفكّرون، والخطباء، وكبار المثقّفين بأن تكون لغتهم أكثر بساطة وقدرة على الإقناع، بعيدًا عن التقعّر، واستخدام الكلمات المبهمة على نشء لا يفقه ما يُقال. إننا أمام مشكلة عظيمة هي مشكلة ظهور أجيال لا تفهم لغتها الأم. هذه المشكلة تهدّد ديننا وعقيدتنا. لأن التراجع في فهم اللغة سيكون على حساب عقيدتنا الدينية، وعلاقتنا بالقرآن الكريم، وفهمه، وإدراكه. ولا يمكننا أن نغفل ما يحدث من تهميش للغة الفصحى وتسطيحها بتغليب أهمية اللغة الأجنبية، وترسيخ كونها مفتاح النجاح والترقي في الحياة. إضافة إلى فصل الشعوب العربية ثقافيًّا بتعميق اللهجة المحليّة لكل شعب؛ ممّا أدّى إلى تقطيع جسور التواصل بين الشعوب العربية على المستوى الثقافي. كل ذلك يحدث بمخططات خارجية، فلا أحد يريد للعرب أن يجمعهم تاريخ واحد، ولغة واحدة، وثقافة مشتركة. كما لا يريدون أن يكون المسلمون قادرين على فهم القرآن ولغته. وللأسف نحن نخدم تلك المخططات في بيوتنا، وتعليمنا فأصبحت اللغة الأجنبية هي لغة التحاور بين أفراد الأسرة العربية، ولغة التواصل مع الأصدقاء والأقارب من أبناء العربية!! ولغة التعليم!! حتى بات البعض يتباهى بأن ابنه أو ابنته لا يحسن القراءة والكتابة بالعربية. وأذكر موقفًا حدث معي في مناسبة قام صاحبها بإلقاء كلمة على الحضور، فانطلق يلقي كلمته باللغة الإنجليزية بطلاقة، ولاقى ذلك استحسان الحضور. وحينما حاول أن يترجم كلمته ويلقيها بالعربية/ العامية لم يستطع وأخفق. فلم يمتعض أحد، ووجدوا الأمر مقبولاً!! وفي المكان نفسه، والمناسبة ذاتها دار حوار بيني وبين امرأة أجنبية لا تتقن سوى الإنجليزية. فتعمَّدتُ أن أتكلَّم معها بلغة إنجليزية ركيكة، متلعثمة، مفككة، وأنا أراقب وجوه الأشخاص الذين وقفوا يستمعون لحوارنا، وللغتي المفتعلة الركيكة، ووجوههم تعكس امتعاضهم، وسخريتهم، وهمسهم كان يعبّر عن دهشتهم من هذه اللغة الركيكة التي تعمدّتها. وكان ذلك بهدف أن أقارن بين موقف الآخرين حينما يخطئ العربي في الإنجليزية، وحين لا يجيد التعبير بلغته العربية، بينما ينطلق بالإنجليزية فخورًا متباهيًا. لم يكن عجز ذلك الشخص عن التعبير بلغته العربية مثار انتقاد أحد. بينما كانت اللغة الإنجليزية الركيكة التي تعمّدتها في كلامي مثار انتقاد وسخرية!! إنها مشكلة عظمى هذه التي أتحدّث عنها في مقالي، والتي كتبت عنها عدّة مرات، ولن أفتأ أشير إليها لعلّ لغتنا تجد مَن يهتم بها، ويهب لنجدتها، وإصلاح ما فسد حولها. [email protected]