تشكلت آفاق الذهنية العربية في عمومها ضمن سياقين رئيسين، أخذ الأول منها مسار المنفعة، القائم على الربح والخسارة، وهو ما مثله المجتمع المكي قبل الإسلام باقتدار، الذي تغلغلت التجارة في مختلف تقاسيم حياته الاجتماعية والدينية، حتى أنه نظر إلى الدعوة المحمدية من منظار نفعي بالدرجة الرئيسة، فكيف يؤمن سادات مكة بإله هو موجود في كل مكان، وبالتالي فما حاجة الناس للمجيء إلى مكة، والتعبد بكعبتها المشرفة. كان ذلك هو لب الخلاف وحقيقته مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ظني أنهم لو علموا بإقرار التشريعات الجديدة للحج والصلاة، وأن الكعبة هي قبلة المسلمين، وأن ذلك فرض واجب، لخف كثير من عنتهم إزاء الدعوة المحمدية، لكنْ.. لله حكمةٌ هو يعلمها. أمّا المسار الثاني فقد قام على معيار القوة والغلبة، الذي يرتكز على ثنائية الغالب والمغلوب، وهو سياقٌ لازمَ مشهدنا العربي في كثير من سماته، وانعكس بآثاره السلبية على جانب واسع من ملامح ذهنية نخبه المتنوعة الدينية والشعرية، ومدوني التاريخ والسير على امتداد تاريخنا القومي، وفي تصوري فليس أجمل من معلقة عمرو بن كلثوم مثالاً لكثير من ملامح هذه الثنائية التي يقول في ثناياها: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ونشربُ إن وردنا الماء صفوًا ويشربُ غيرُنا كدرًا وطينا على أن هناك مسارًا ثالثًا لم يحظَ بخاصية الاستمرار، وبالتالي فلم يُشكل أيّ سمة في الذهنية العربية بوجه عام، إنه المسار النبوي الذي يقوم على معيار الكفاءة، ويرتكز على ثنائية القدرة ونقيضها، الجودة وخلافها، فالناس أكفاء لبعضهم البعض، ويتمايزون بالقدرة والجودة العملية، مصداقًا لقوله تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أتْقَاكُم)، ولهذا فقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تقسيم أصحابه فور هجرته ليثرب إلى مهاجرين، وأنصار، متساوين جميعًا في الحقوق والواجبات، ويتفاضلون فيما بينهم بالعمل. كما حرص منذ الوهلة الأولى على تعزيز سياقات الذهنية المدنية في محيط مجتمعه النبوي، الذي يرتكز على سمات القيمة والكفاءة الوظيفية بالدرجة الرئيسة، من خلال تغييره لمسمّى البلدة إلى لفظ "المدينة" تحديدًا على ما يحمله المسمّى من دلالات ومعانٍ عديدة، ومن واقع توقيعه لوثيقة المدينة الدستورية مع اليهود وغيرهم، ناهيك عن كثير من الإجراءات التي أراد النبي منها تغيير نسق الذهنية العربية إلى الأفضل. لكن ذلك لم يحدث، إذ سرعان ما عاد الناس إلى سياقاتهم الذهنية التي ما نزال عليها حتى اليوم. وهو ما يفسر -في جانب ما- كثيرًا من أسباب التراجع الحضاري المعاش. [email protected]