* جاء مؤتمر حوار الأديان والثقافات، الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ليعيد صياغة معادلة العلاقات بين بني الإنسان، بإعادة بنائها على القيم التوحيدية: قيم البر والقسط، وقبلهما السلم الذي يؤسسهما ضرورة. وهي صياغة كان العالم المعاصر، ولا يزال، بأمس الحاجة إليها بعد أن سمم الإرهابيون، من كافة الطوائف، تلك العلاقة عندما حاولوا تأسيسها على أيديولوجية الاحتراب "الدائم"، الذي جعلوه، أي الاحتراب، بمثابة ملزوم مبني على لازم هو: "انتفاء" التعددية في الإسلام. بناء الملزوم "علاقة الاحتراب" على اللازم "انتفاء التعددية" جاء نتيجة "طبيعية" لمحاولة منظري الفكر الإرهابي/ الخوارجي تكييف علاقة الإسلام بغيره من الديانات والثقافات بالاتكاء على (ثنائيات) تراثية تاريخية "تطورت" عبر عملية انتخاب "ثقافي" على امتداد الزمن الثقافي العربي، بالاتكاء على مقياس (خوارجي) ثنائي القيمة ذي طرفين هما ثنائية: إما...... وإما. بحيث يقوم منطقه على توظيف قيمتين حديتين على طرفي المقياس، بحيث يتوقف وجود أحدهما على نفي الأخرى ضرورة. هاتان القيمتان تطورتا، تاريخياً، باستخدام المقياس الآنف الذكر عبر الثنائيات التالية: إما إسلام وإما كفر، ومن ثم فالناس: إما مسلم وإما كافر، لتتطور الثنائية عبر التوالد الثقافي الأيديولوجي التاريخي إلى الثنائية: إما دار حرب وإما دار إسلام. في مخالفة صريحة لمنطق القرآن الكريم الذي دشن نموذجاً للعلاقات، يمتاز بأنه متعدد الأبعاد والقيم التي يجب توظيفها في آن واحد. وذلك عندما نص على (كونية وديمومة) اختلاف الثقافات والأديان إلى أن يرث الله الأرض بآيات كثيرة منها قوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، الآية. لكن من المهم أن نتذكر هنا أن الخوارج هم أول من صاغ ذلك المقياس الضيق الأفق لأول مرة في التاريخ الإسلامي، عندما أعملوا منطق: إما هم ومن معهم حيث معسكر الإسلام. وإما ضدهم حيث معسكر الكفر!. ومن تلك القيمتين تولدت، كما نعرف، ثنائيات تاريخية نفعية تراكمت عبر التاريخ ، لتصل في صياغتها النهائية، إلى مفهوم الفسطاطين: فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر. وهو المفهوم المدمر الذي تحاول القاعدة تدشينه ليكون حاكما على علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى. هذا يعني أن إعادة صياغة العلاقات بين بني الإنسان، لتكون ضامنة لحسن سير الاجتماع البشري، تتطلب تجاوز المقياس الخوارجي ثنائي القيم، إلى مقياس ذي قيم متعددة تتميز بأنها ذات اتجاه إيجابي، بمعنى أن وجود أي منها لا يتوقف على نفي غيرها. ولا يمكن، بطبيعة الحال، أن يُصار إلى ذلك المقياس المتعدد القيم إلا بتجاوز السياق التاريخي الأيديولوجي، الذي أملى على الخوارج صياغة منطقهم الذي ولَّد ذلك المقياس الذي يحمل في منطقه بذور الاحتراب الدائم، وصولاً إلى منطق لا تحكمه السياقات التاريخية أو السياسية النفعية، بقدر ما تحكمه القيم المستلهمة مما اقتضته حكمة الله تعالى من خلقه الناس متعددي المشارب والأديان والثقافات بتمثل قوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم"، المائدة.. وتجاوز السياق التاريخي، الذي هيأ الذهنية المتطرفة لاستلهام صياغة آحادية حدية لمسار العلاقة بين الإسلام وبين غيره من الديانات والثقافات الأخرى، يتطلب سبر نصوص القرآن الكريم في ترتيبه لعلاقة المسلمين الأوائل مع غيرهم من الأمم والثقافات التي كانت بمحيطهم الزمني. لكن لا بد، قبل ذلك السبر،من استعراض أبرز الأديان والثقافات التي كانت موجودة في محيط الدعوة المحمدية على صاحبها أزكى الصلاة وأتم التسليم. لقد ضم محيط الدعوة المحمدية، في مرحلتيها المكية والمدينية، عدداً من الأديان والثقافات، أبرزها: النصرانية واليهودية والوثنية، (ممثلة بمشركي العرب) واللادينية، (الدهرية)، والمجوسية وغيرها. ولذا، فقد كان من الطبيعي لتلك الدعوة، وهي التي نزلت رحمة للعالمين أجمع، أن تبادر إلى ترتيب العلاقة بين أتباعها وبين أتباع تلك الديانات والثقافات الذين كانوا يشكلون أجزاء مهمة من نسيج المجتمع الإسلامي الوليد. ولأن الآخر المعاصر الأبرز للمسلمين اليوم لا يزال هو الآخر التاريخي: أتباع الديانتين السماويتين: المسيحية واليهودية، بصفتهم أهل كتب سماوية كما هم المسلمون، فمن الأولى أن ينصرف اهتمامنا إلى الكيفية التي رتب بموجبها القرآن علاقة أتباعه مع أتباع تلك الديانتين. وسيكون من المناسب أن نتتبع مسار تلك العلاقة بالتساوق الزمني مع مرحلتي الدعوة المحمدية، المكية أولاً ثم المدينية ثانيا. في المرحلة المكية لم يكن ثمة احتكاك مباشر بين الإسلام وبين أتباع تلك الديانتين، عكس ما كانت عليه الحال مع الوثنية التي كان - الإسلام - قد دخل في صراع معها من أجل إعادة الاعتبار للتوحيد الإبراهيمي. ومع ذلك فلم تخل تلك الفترة من احتكاك غير مباشر بأتباع تلك الديانتين نلخصه على النحو التالي: بالنسبة للنصارى نجد أن الاحتكاك غير المباشر معهم قد جاء على مستويين اثنين: الأول: مستوى المقيمين منهم بمكة، ومعظمهم من الموالي الذين كانت قريش تتهم النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه يأخذ القرآن من بعضهم. وهو ما جاء في قوله تعالى: "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي". وهذا اللسان، الذي كان كفار قريش يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منه، لم يكن إلا إشارة لبعض أولئك النصارى المقيمين بمكة. الثاني: مستوى الوفود النصرانية الزائرة لمكة.وفي هذا المجال، تشير مصادرنا التاريخية إلى أن مكة كانت قد استقبلت وفداً من نصارى الحبشة الذين كانوا قد احتكوا بالصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة هرباً من اضطهاد قريش لهم،وأنهم التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا إلى القرآن، فأنزل الله فيهم الآيات، من الثانية والخمسين وحتى الخامسة والخمسين من سورة القصص، والتي مطلعها قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم يؤمنون". ويبدو أن هذا كل ما يحتوي عليه مسار علاقة الدعوة المحمدية بالنصارى خلال الفترة المكية. أما ما يخص علاقة الدعوة المحمدية باليهود، فقد اتخذت هي الأخرى مسار احتكاك غير مباشر من خلال السياقين التاليين: الأول: سياق البشارة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ويحضرنا في هذا السياق ما ذكره المفسرون وأصحاب السير من رواية عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أشياخ من قومه أنهم قالوا: "فينا وفيهم - يعني في الأنصار واليهود - نزلت هذه القصة، يعني مضمون قوله تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبلُ يستفتحون على الذين كفروا، إلخ. قالوا: كنا قد علوناهم، (غلبناهم)، دهراً في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبياً الآن مبعثه قد أظل زمانه يقتلكم قتل عاد وإرم. فلما بعث الله تعالى رسوله من قريش واتبعناه كفروا به". الثاني: سياق ما يمكن أن نطلق عليه التعاون "الأيديولوجي الفكري" بينهم - أي اليهود - وبين مشركي قريش.فقد ذكر السيوطي في كتابه، (لباب النقول في أسباب النزول)، عند استعراضه لأسباب نزول سورة الكهف قول ابن عباس رضي الله عنهما: "بعثت قريش النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله. فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم أمر عجب. وسلوه عن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هي". ورغم أن مثل تلك الأسئلة تنبئ عما يمكن اعتباره صيغة تحالفية بين اليهود وبين مشركي قريش ضد الدعوة المحمدية، فقد كان موقف تلك الدعوة من اليهود مسالماً تماماً. يؤيد ذلك ما جاء في آخر سورة نزلت في مكة، (سورة العنكبوت)، التي قيل إنها نزلت والرسول صلى الله عليه وسلم يتهيأ للهجرة إلى المدينة حيث مقر اليهود.. وذلك قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". والخلاصة أن موقف الإسلام من أهل الكتاب خلال المرحلة المكية تميز بكونه موقفاً مسالما منفتحاً، سواء مع النصارى، كما يتضح ذلك من مضمون الآية التي نزلت في النفر الذي قدم من الحبشة. أو مع اليهود، كما يتضح من مضمون آية سورة العنكبوت. ويبقى أن نستعرض موقف الإسلام من الديانتين خلال المرحلة المدينية، مرحلة الدولة، بعد أن عرفنا موقفه منهم خلال مرحلة الدعوة. وهو ما سيكون موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.