هل يمكننا أن نتقبّل تشويه الحقائق، بل وتبنّي هذا التشوّه واعتماده في إدراكنا وقناعاتنا؟ سؤال ربما يبدو مفاجئًا أو غير مقبول، أو غير مفهوم لدى كثير منا. فنحن نعتقد أن الحقيقة ثابتة الملامح. مستقرة في قناعاتنا غير قابلة للعبث. لكن ما لا نعرفه أن للحقيقة أكثر من وجه، وأن لكل واحد منا نظرته الخاصة لهذه الحقيقة، ويراها من زاويته وبطريقته التي تأقلم عليها، أو أجبرته الظروف على التأقلم عليها. قد يبدو هذا الكلام مبهمًا قليلاً، لكنني سأوضّحه بتجربة ستجعلنا نكتشف أمورًا ربما كانت غائبة عن كثير منّا، فمنذ عدّة سنوات قام مجموعة من العلماء بإجراء تجربة على مجموعة من تلاميذهم، وكانت هذه التجربة قائمة على ارتداء التلاميذ نظارات تعرض الصور مقلوبة، إذ كانت عدسات تلك النظارات تقلب الشيء المرئي رأسًا على عقب، وفي الأيام القلائل الأولى من التجربة كان التلاميذ يتعثّرون في سيرهم، ويتخبّطون في الأثاث، ويسقطون على وجوههم، ويسيرون إلى أركان حجرات الدراسة عندما يبدّلون الفصول، ويعانون من كل نشاط يقومون به بوجه عام. ولأنهم يعرفون الأشياء على حقيقتها الفعلية، فقد رفضت عقولهم هذه البيانات الجديدة الزائفة التي أدخلت عليها قالبة كل شيء رأسًا على عقب، أو رفضتها في البداية على الأقل، لأن هناك تغيرًا غريبًا حدث بعد أيام قليلة، إذ بدأ التلاميذ يقبلون العالم المقلوب رأسًا على عقب بكل ما فيه من زيف على أنه عالم واقعي حقيقي. فقد تقبّلت عقولهم ذلك، واعتادت على التشوّه الذي تتعامل معه، وبعد أسبوع واحد فقط أصبح هؤلاء التلاميذ يتحرّكون بصورة طبيعية، فلم يعد هناك تخبّط في سيرهم ولا وقوع!! وكان ذلك موضع دهشة الباحثين الذين قرّروا مدّ التجربة إلى شهر، فكانت النتيجة أن أولئك التلاميذ كانوا يحقّقون يومًا بعد يوم قدرة عجيبة على التعايش مع الوضع المقلوب!! وكانوا يؤكّدون أن تلك النظارات لم تكن تسبّب لهم مشكلة من أي نوع، فبوسعهم القراءة والكتابة بصورة طبيعية، بل إنهم استطاعوا صعود الدرج بسرعة تضارع سرعة زملائهم ممّن لم يتعرّضوا للتجربة. وما تبرهن عليه هذه التجربة هو أن الإنسان لديه قدرة عظيمة على التأقلم مع المدركات، حتى لو كانت مشوّهة، وأن لديه القدرة على التعامل مع المدركات الخاطئة خطأً بيِّنًا على أنها طبيعية تمامًا. وهذا يؤكّد لنا أن عملية إقناع أي إنسان تحتاج لمخّه، وما يكفى من البيانات والمداخلات. لذا نجد الكثير من الأمثلة على ذلك على مر التاريخ، من أشخاص تعرّضوا لغسيل المخ، أو للتضليل بالانضمام إلى طوائف دينية متطرّفة، وعصابات تغرس توجّهاتها في نفوس أفرادها الذين تستقطبهم والهدف من أن اكتب اليوم عن هذا هو التنبيه إلى ما يمكنه أن يفعل بنا كما يفعل غسيل المخ، أو التضليل بغرس قناعات تتزعمها العصابات.. وهو أعظم غاسل للمخ يمكنك أن تتعرّض له في حياتك. وهو (أنت) شخصيًّا حينما تمتلئ بمعلومات سلبية عن نفسك، وتتبنىّ مدخلات مشوّهة عن تصوّرك لذاتك، وبيانات تنتقص من قيمتك وقدراتك، فإنك عندئذٍ تشكل أشرس مدمر لذاتك بلا منازع، وبالتالي تقوم بتغيير الكثير من الحقائق بإدخال بيانات أخرى تشوّهها أو تزيّفها، فتعيش مع ذات مزيّفة أو مشوّهة. [email protected]