في عطلة عيد الأضحى ذهبت مع العائلة إلى لندن لقضاء عطلة العيد، ولإعطاء فرصة لابنتنا الصغيرة «تالة» لزيارة زميلاتها اللاتي اخترن مواصلة الدراسة الجامعية في لندن، بينما هي اختارت المواصلة في جدة. لندن بالنسبة لي مكان مألوف، حيث قضيت بها فترة الدراسة الجامعية، والتي كانت من أجمل أيام الحياة، ولكنني لم أزرها منذ خمس سنوات، لأن لندن تراءت لي في آخر زيارة أنها لم تعد المكان الذي آلفه وأشتاق إليه. ذهبت هذه المرة وأنا مُتردِّد، ولكن الرحلة كانت ممتعة ومفيدة، وأعادت لي ذكريات جميلة في تلك المدينة العريقة والعميقة في كل أبعادها.. اختارت لنا الابنة فندقا صغيرا بعيدًا إلى حد ما عن منطقة الفنادق الفخمة التي يرتادها العرب والخليجيون على وجه الخصوص، ولكنه قريب من قلب لندن، الذي لا تتوقف الحياة فيه حتى في أيام العطل. من أهم الملاحظات التي شدّت انتباهي؛ استمرار العناية الفائقة بالحدائق العامة وعلى رأسها حديقة هايد بارك HAYED PARK الشهيرة.. «رئة لندن» كما ينعتها اللندنيون وغيرهم.. وهي بحق كذلك! حيث لم ينلها العبث العمراني، ولم تعانِ من احتضان الحداثة على مر العصور، خلاف لما نشاهده في مدينة جدة وغيرها من إهمال بل وتعدِ على الحدائق والأشجار، وعدم وجود مَن يغار ويثأر للبيئة، كما هو الحال في لندن وغيرها من مدن العالم الكبرى. وسائل النقل العام يعجز الإنسان أن يصف سلاسة انسيابها في تلك الشوارع الضيقة، وانضباط المواعيد، وتوفير المعلومات عن طرق السير، ومحطات الوقوف والأحياء التي يمر بها كل أتوبيس بدون خلل في المواعيد أو تغيير الطريق. شبكة المترو في لندن -مدينة تحت المدينة- تسير فيها ومن خلالها حياة عشرات الملايين من المجتمع على مدار الساعة، وهي بحق تُجسِّد أحد إنجازات الإمبراطورية العظيمة عندما ترى عمق الانفاق وجودة التهوية ونظافة الشبكة بكاملها. التعليمات والإرشادات تُشكِّل نظاما متكاملا رُسم بعناية، بالإضافة إلى إنذارات السلامة الواضحة لتذكير الركاب بأهميتها وضرورة اتباعها.. في المحطات الرئيسة تتوفر كل وسائل التقنية الحديثة لشراء التذاكر آليًا ولكن المساعدة متوفرة بكل يسر وبكل أدب أيضًا. الكلام عن النقل العام بالنسبة لنا في المملكة ينبغي تكراره مرات ومرات حتى نواكب ما يحصل في العالم في أسرع وقت ممكن، ونتخلّص من زنقة الازدحام، ونُقلِّل من عدد الحوادث، وربما في يومٍ من الأيام نتخلَّص من أزمة ساهر التي تُلاحقنا حتى داخل المدن بسبب التهور وعدم المبالاة. وعن المتاحف والأماكن الأثرية والمعالم التاريخية حدّث ولا حرج، فلندن بها من الثراء الفكري والتاريخي ما يفوق الوصف، وكل ما يحتاجه السائح، الوقت والرغبة في الاستمتاع بمزايا ما بلندن من القديم والحديث، في شكل مُرتَّب ومُنظَّم ومريح. في ليلة العيد سألنا الفندق عن أقرب مسجد تُقام به صلاة العيد، وكانت الإجابة هناك مساجد كثيرة، ولكن الأقرب في مستشفى سنت ميري St. Mary›s Hospital القريب من الفندق، واستغربت أن يكون بالمستشفى مسجد تقام به صلاة العيد. وفعلًا ذهبت إلى المستشفى لصلاة العيد والجمعة، حيث شاهدت عددا من الأطباء والطبيبات والممرضات وغيرهم من كل الأجناس؛ يتسابقون في موعد الصلاة للحصول على مكان في المسجد، ويستمعون للحديث والخطبة، وبعد الصلاة يذهب كُلٌّ إلى عمله بهدوء واطمئنان. في الشوارع التي يرتادها العرب - كوينز ويه، وادجور روود، ونايت بردج- (Qweens Way, Edgware Road, And Night Bride)، تنتشر المقاهي ذات الطابع العربي، حيث يرى المارة العرب من الجنسين يتناولون المعسل حتى ساعات متأخرة من الليل، ويحتار المرء بماذا يصف تلك المناظر! المحافظة على النظام والنظافة والهدوء تعكس رقي المجتمع ومستواه الحضاري الذي وصل اليه. عنوان المقال مستوحى من تعبير أُطلق على مدينة جدة سابقًا، ولا مجال للمقارنة بين «معاناة جدة» وبين «لندن غير» في نظامها ونظافتها ومستوى الحياة الراقية فيها التي تُذكِّر بقول الفيلسوف البريطاني: Smnuel Johnson 1777: (He who is tired of London is tired of life)، والذي يتعب من لندن فهو متعب من الحياة، ولذلك تبقى «لندن غير» وهي بحق كذلك. [email protected]