سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"خواطر مصرَّحة" على مسطرة الحاضر إن ما دار ويدور حول "خواطر مصرَّحة" من سجالات فكرية، إنما هو من باب المبالغة؛ إذ لم تكن بالسوء الذي يستوجب ردة فعل علماء تلك الفترة
أعود إليكم اليوم بعد شهر من الابتعاد عن هموم الكتابة الصحفية، ممثلة في (المقال) الأسبوعي عبر هذه الصحيفة الرائدة. مفهوم الابتعاد لا يعني أن الكاتب أصبح في جزيرة معزولة، لا يؤثر ولا يتأثر بما حوله؛ فوسائط التواصل الحديثة تأبى إلاّ أن تجعل المرء في قلب الحدث مهما حاول النأي أو التجاهل. كذلك فالابتعاد عن الكتابة الصحفية لا يعني القطيعة مع روافد الفكر المتعددة، ومناهل الثقافة المتدفقة. وتأسيسًا على ما سبق فقد عشتُ لحظاتِ دهشةٍ وأنا أبحر عبر صفحات كتابٍ دارت حوله عبر ما يقرب من (90) عامًا الكثيرُ من السجالات، وكُتب عنه وعن مؤلِّفه الكثير من المقالات، وعدَّ مؤلِّفه عند أناس رائدًا من روّاد طلائع النهضة الفكرية والأدبية في بداية تأسيس الدولة السعودية الحديثة، وعند آخرين خارجًا على الثوابت، متعديًّا على الفكر الدِّيني وبعض مراجعه. كتابنا المعنيُّ هو (خواطر مصرَّحة) لمؤلفه (محمد حسن عواد) المطبوع سنة (1345ه) بالمطبعة العربية بمصر، المعادة طباعته سنة (1433ه) في حلة أنيقة، قام على تحرير محتواها والتقديم له الأستاذ حسين محمد بافقيه. أصدقكم القول إنني حينما بدأتُ في قراءة الكتاب كنتُ أحمل قَدْرًا كبيرًا من النوايا المسبقة عنه وعن مؤلفه، وعددتُ نفسي مُقْدِمةً على بحر لجيٍّ من الأفكار والرؤى المتحللة من الفضائل والقيم، المتصادمة مع (الثوابت) الشرعية. قرأتُ الكتاب فخرجتُ بنتيجة مؤداها أن خواطر العواد لم تكن تستحق كل هذه الزوبعة والحدِّية من قِبل معارضيه في تلك الفترة وما تلاها؛ فالخواطر ليس فيها إلاّ خاطرة أو خاطرتان جاء فيها بعض التعريض لفئة من العلماء، وتحديدًا في الخاطرة المعنونة ب(مداعبة مع العلماء). وعندما نتساءل: من هم العلماء الذين عناهم العواد في خواطره تلك؟ نجد في تقديم بافقيه للكتاب رأيًا يلامس الصواب، فهو يرى أن العواد "عَنى رجالَ الطُّرُق الصوفية ممّن تناثرت زواياهم في الحجاز". واستدل بافقيه بقول العواد في معرِض حديثه عن (عقول) أولئك العلماء "هل خُلقت لتملأوها تبغًا ونشوقًا، وتضعوا عليها عمائم عظيمة، وقلنسوات خيزرانية؟" حيث يرى بافقيه أن "التبغ والنشوق أُولع بهما طوائف من المتصوّفة". وممّا لفت نظري في الكتاب ما جاء في تقديم (عبدالوهاب آشي) لطبعته الأولى بإيعاز من (محمد سرور صبان). فالمتعارف عليه أن التقديم عادة ما يمتلئ بعبارات المدح المبالغ فيه للمؤلِّف والمؤلَّف، غير أنك تقرأ ل(آشي) نقاشًا حادًّا (للعواد) عن "تغنيه بالغرب، وولوعه بذكر عجائبه وتمجيده". وحينما نمضي مع خواطر العواد نجده يأتي بنظرية اقتصادية لاستغلال مواسم الحج والزيارة، فيذكر أن (مئة ألف) حاج وزائر يدخلون مكة سنويًّا، وينفقون قرابة (6) ملايين جنيه خلاف الواردات الأخرى، ولذا يرى أهمية استغلالها في (تأسيس شركات كبرى، ومدارس صناعية، وكليات، وبناء بواخر أو بوارج حربية). وقد ضمَّن بافقيه آخرَ كتابِ الخواطرِ الردودَ العشرةَ ل(يوسف ياسين) رئيس تحرير صحيفة أم القرى -وقتَها- على خواطر العواد. لقد كانت رحلة ممتعة قضيتها مع خواطر العواد التي كانت شاهدة على فترة زمنية تولَّت، عاشت المنطقة خلالها تحوّلات فكرية وأدبية وسياسية متلاحقة، جاءت "خواطر مصرحة" نتيجةً حتميةً لها. ولو أننا مرَّرنا تلك الخواطر على مسطرة الحاضر المتخم بالأعمال الأدبية والفنية ذات النوايا المبطَّنة لكانت الخواطر بمثابة قطرة في بحر متلاطم من الإساءات المتعمدة. وبعد.. فإن ما دار ويدور حول "خواطر مصرحة" من سجالات فكرية إنما هو من باب المبالغة؛ إذ لم تكن بالسوء الذي يستوجب ردة فعل علماء تلك الفترة، ولا ردة فعل علماء تلك الفترة تستوجب كل هذا التضخيم (المستمر) لها من محبي العواد. [email protected]