الذي يتابع نتاج الشاعر عواض العصيمي يعلم جيدًا أن هذا النص كتب في بداياته، وإن لم يكن فهو بلا شك ينتمي إلى مجموعة نصوصه التقليدية -مع شيء من التحفظ تجاه وصف هذا النص بالذات بالتقليدي- ومن المؤكد أن نصًّا كهذا يعتبر من قبيل التعبير الآني لحالة مر بها الشاعر، وممّا يؤكد ذلك تسمية النص بذات الاسم، الأمر الذي يعطينا دلالة على طغيان التعبير على الحبكة الشعرية.. إذًا -كما هو الحال عند أغلب المجددين- لا يخلو أي ديوان شعري لهم من وجود نص من هنا أو هناك يجبر الشاعر على البوح اللامتكلف، وهي حاجة أرى أنها ماسة بالنسبة للشاعر الذي يرهق نصوصه بالصنعة الشعرية، فالشاعر مع قناعته وإيمانه بمبدأ حياكة النص، إلا أنه قد يتخلى عن مثل هذا المبدأ في لحظة تدفق سردي، أشبه ما يكون بالبوح -لن أقول الصادق- فحتى الشعر المصنوع صادق أيضًا، ولكني سأقول البوح الخالي من التكلف. ولذا نجد الشاعر هنا يفتح ذراعيه للمتلقي، منسلخًا من كل المحاولات الرمزية التي يمكن أن لا تشرك المتلقي في أتون النص.. كل»ن» وجرحه.. رضي وإلا على كيفه ياليتني في بعض حالي على كيفي قد يتبادر إلى ذهن المتلقي هنا أن هناك ترادفًا ما في التعبير عن وصف الشاعر: أيرضى أم على كيفه، وكأن كلاهما سيان، أعني في قوله: رضي .. والا على كيفه فالهاء هنا في «كيفه» تعود على الجرح، وليس على الشاعر، بدليل أنه يؤكد ذلك في الشطر الثاني: ياليتني في بعض حالي على كيفي وكنت أتمنى على الشاعر جمع مفردة «حالة»، لأن الحالة التي مر بها أو يمر بها الشاعر من ضمن أحوال عدة يمر بها، فإفرادها هنا يعني أنها حالة ملازمة له، ولا أظنه يعني هذا. أيضًا هذا الإفراد لا يتناسب وطبيعة الأدوات التي يقاوم بها الشاعر حالته هذه، فقوله: صكاتي - محاريفي - تحاسيفي - سواليفي - مشاريفي - تواصيفي. كل هذا يمكن أن يعتبر مضادات للحالة التي يمر بها الشاعر، لكنها جمعت وأفردت الحالة، الأمر الذي يجعلنا نسائل الشاعر: هل هي فعلاً حالة ملازمة أم أن ضرورة الوزن دفعته إلى التعبير بهذه الصيغة؟ لكن جوهر النص يكمن في إيماءاته الدقيقة عن «الظل». فالرمزية المحاطة ب»الظل» هنا تجعلنا نتساءل: هل المقصود ب»الظل» هنا: ظل الشاعر، أم هو ظل كائن آخر؟ الواقع أن الشاعر لم يسلمنا مفاتح النص كاملة، حتى مع وصفنا لهذا النص بالتقليدية، وهذا ما يميز أصحاب النزعة التجديدية، أنهم مع تقليديتهم في بعض الأحيان لا يمكن أن يمكنوا القارئ من كل شيء، فهم يتحفظون دومًا ولو على بيت من النص، لأنهم لابد وأن يشعروا بسيادتهم للنص .. وهذا هو الفرق بين الشاعر التقليدي والشاعر المجدد، التقليدي يسلمك مفاتح النص كلها، لا يبخل على القارئ بشيء، بل يرى أن ذلك من كمال الإبداع، لكن المجدد يترك لنفسه فرصة التلذذ بتلك المشقة التي يبذلها القارئ في سبيل معرفة ما يريد . ولكن دعونا نفترض أن المقصود من ذلك هو الشاعر، أي: ظل الشاعر نفسه، فإننا بهذا الافتراض ندلف إلى معنى آخر من دلالات هذا النص، ألا وهو فقدان الشاعر لما يمكن أن يسمى بالذات المصورة / الظل، الأمر الذي يجعلنا نتصور الحالة المأساوية التي وصل إليها الشاعر، إذ يوصفها بالإرهاب مرة، وبالسرقة أخرى، وبعدم السماع / اللامبالاة مرة ثالثة، وبالخوف من هذا الظل في كونه: لا ينسى سواليف الشاعر، أي: ربما يخشى الشاعر أن يبيت له هذا الظل ضغينة ما: وارهبني الظل.. تسرقني تجاويفه لا يستمع لي.. ولا ينسى سوالفي والسؤال: لماذا لا يثق الشاعر بظله إلى هذه الدرجة؟ قد نجد الجواب في قوله: لاني حديد النظر.. واستوعب الشيفه ولاهو عزاز الوطا.. واقطع مشاريفي يؤيد هذا قوله في بدايات النص: والمشكل إني قليلات محاريفي وممّا لاشك فيه أن كون الشاعر ليس بحديدي النظر، هذا من تبعات كونه قليل المحاريف -على حد تعبيره الشعري- يضاف إلى ذلك عوامل أخرى لم تساعده في أن يتوازن مع ظله، ومن ذلك أن هذا الظل ليس بعزيز الوطا -كما يقول- وتخاريفه تعيي الشاعر، وتعبيره هنا بالإعياء تعبير دقيق يتناسب مع التخاريف التي سببت هذا الإعياء، مع أن ما يدعو إلى دهشة الشاعر تلك المعرفة التفصيلية التي يتمتع بها هذا الظل في معرفة تواصيفه هو .. إذن نحن أمام نص عالي الانفتاح، عالي الإنغلاق، عالي الدهشة.. وليس ذلك بغريب على شاعر مثل عواض. المزيد من الصور :