لا أعرف إن كانت توجد خارج الولاياتالمتحدة مؤسسات أمن قومى تؤدى الوظيفة التى تؤديها هناك ، لأنها فكرة لا تحظى بأمثل تطبيقاتها إلا فى مجتمع لديه من وفرة الكفاءات وفائض الموارد ما يخصصه لأمور كمالية . أسمعك تتساءل : وهل موضوعات الأمن القومى تصنف ككماليات !؟ .. طبعا لا ، إذا طرحتها مجريات الأحداث وفرضت نفسها على صناع القرار ستتقدم على كل ما عداها ، إلا أن هذا ليس العمل الرئيسى لمؤسسات الأمن القومى ، عملها الروتينى ليس التعامل مع الأزمات الجارية إنما استباق الأزمات بالتوقعات ، وإعداد خطط لمواجهة ما لم يحدث بعد ، وقد لا يحدث قط ! . ها قد وضح لك وجه الكمالية فيها ، علاوة على ما تحتاجه من خبرات وإمكانيات فوق المتاح لغالبية دول العالم . داعى الموضوع كثرة الحديث عن سد النهضة الأثيوبى ، وهو ما لن أخوض فيه طالما لا توجد معلومات محددة تكفى لإبداء رأي حوله ، كل ما قيل وجرى تداوله لا يحتوى معلومات يقينية ، لذلك سأفترض فقط ان مشروعاً ما قد يقام يوماً ما فى بلد ما من بلدان أعالى النيل ، بحيث يهدد تدفق مائه وبالتالى الأمن القومى المصرى، وهو تهديد وجودى بحق ليس من قبيل المبالغات البلاغية . ألم يك هذا محتملا من قبل كما هو محتمل اليوم أو غداً ، فإن لم تكن هناك مؤسسات متخصصة للإعداد لمثل هذه التوقعات والدراسات ، ألا توجد جهة أو جهات تؤدي هذه الوظيفة ولو بصورة أقل إحترافية ، من منطلق ما لا يدرك كله لا يترك كله ؟ .. حدث كهذا كان مستبعداً ، فكل دول حوض النيل ضئيلة الإمكانيات وبلا خطط قصيرة أو طويلة الأجل لاستثمارات على هذا النطاق، لذلك تم استبعاد الحدث بناء على اعتبارات يمكن تفهمها ، إلا أن هذا بالضبط عمل مؤسسات الأمن القومى ، ليس فقط إفتراض ما هو ضعيف الاحتمال إنما كذلك تخيل ما لا يبدو محتملاً ولا تؤيده المعطيات الراهنة ، أو فى المستقبل المنظور ، ووضع خطط للتعامل معه . من حيث المبدأ الخيال نشاط لا يتصل بالواقع الخارجى ، بالتالى لا علمية فيه، العلم أضيق من أن يسمح بخيال . وكل خيال ما لم يكن حدساً أو إلهاماً لن ينتج سوى فانتازيا قابلة للتطور الى أوهام ، على أحسن الفروض قد ينتج فناً ، فمن أين أتى تعبير " الخيال العلمى " ؟ .. مجرد تعبير دارج ، صحة منطوقه " الخيال المقيد " ، أى الخيال غير مطلق العنان فيجمح الى حيث يشاء ، وله درجتان ، الأولى قائمة على معطيات وفروض لا يجسدها واقع حالي ، ويستحيل أن يجسدها واقع مستقبلي ، تترابط مع نفسها ومع استنتاجاتها بمنطق معقول ، أغلب روايات الخيال العلمى من هذه النوعية . الدرجة الثانية تختلف عن الأولى فقط فى أن معطياتها لا يستبعد أن يجسدها الواقع المتغير فى المستقبل ، حتى ولو باحتمال ضعيف . تمثل التوقعات ربع مهمة مؤسسات الأمن القومى ، الجانب الأكبر من مهامها وضع خطط مواجهة السيناريوهات المفترضة ، هذه أيضا لا تستغنى عن خيال . الكمالى ليس هو الشئ عديم الأهمية أو القيمة ، لاحظ كيف أن أغلب السلع الكمالية غالية الأسعار ! ، فى بعض الأحيان يصبح الكمالى ضرورياً . موضوع الكماليات لا يرتبط بالأهمية أو القيمة قدر إرتباطه بالأولويات والإمكانيات . لم يخبرنا علم النفس إن كان للكائنات الأخرى غير الإنسان قدرة على الخيال ، قد يكون عندها بنسبة محدودة ، لأن الخيال يشترط إمكانيات تفكير عالية ، هو ليس نقيضا للعقل أو الذكاء ، على العكس قريناً لهما .