أحمد البلوي ليش شاعرًا متسكعًا بإحياء نخبوية تنظم الشعر لوجاهةٍ غائبة, ولا عاشقًا يدوزن الحانة بين الوجد والصبابة, بل تجده على مشارف الأحياء العتيقة ، بين أُناس احلامهم بسيطة جدًا, وهذا سبب استحالتها, يجالس البسطاء الذين يشكّلون ملامح الشعر الحقيقي الذي تُنبعث من قوافيه سُمرتهم, وتعبهم, وعتبهم, وابتساماتهم التي تهزم الجوع, ابتسامة قد تغيب كثيرًا لكنها إذا أتت فإنها لا تقبل الزيف, رغم أنها تأتي كومض يغتاله سواد الواقع وعتبهم: عتبهم كسرة الخبزه..إذا سولف فقير الحال لهم فيني من جذوز الشقا:حسره: ولي فيهم له فيهم الكثير من الدم والعروق والعقيدة والهم, يعرفهم كما يعرف أحلامه, ويتأملهم كما يتأمل أصابعه بعدد مرتبك: هنا بلدة../هنا بيت../ هناك أُم وثمانية أطفال تخبيهم هُنا..عن زُخزف الدنيا مخابيهم الشعر هنا يتجاوز ثرثرة ناقد يسبر بقلمة طباقٍ او جناس او محسنّات بديعية, فالشعر كلما تأنسن أصبح أعلى بكثير من أن يخضع لمعاول هدم أو ترميمٌ ساذج, او حتى نحت مُنصف, الشعر أعظم من الكاميرا ومن كل مكبرات الصوت في التقاط تنهدات أُم عظيمة: هنا.. ذيك العجوز اللي تُحيك بصبرها كم شال تنادي طفلها ينظُم لها الإبرة وتكسيهم لو كان الشعر مخلوق يقبل التحدي, لتحدينا كل العقول (الهوليودية) بكل تقنياتهم ورقمياتهم أن يوصلوا صورة كهذه كما أوصلها الشعر. ويبقى أحمد عايد إنسانًا يلتقط ملامح الحزن من تأمل شيخٍ مُسن, أو حتى غريبًا بسيطًا يعرض بضاعته -التي لا تُشترى غالبًا- على رصيفٍ بأطراف حيُ يحتضر, وكأن الشاعر بضاعته تحسس الكآبة لا البضاعة: ياعم (عبُده) تراها-غربتك-سهلة لا تشكي البُعد والحرمان وسواته معاك.. صعبة يغيب الشخص عن أهله لكن الأصعب يغيب الشخص عن ذاته ياعم حزني على أقل من مهله يجرّ في صدري المجروح خطواته ويبقى هذا الشاعر متاملًا قلقًا, يقول القليل مما يُريد, ويترك أبواب الأسئلة مُشرعة على طُرق الإجابات التي مهما علت تظل ظلا مواربا وكسيحا: كم من كلام لاطلع مات مصلوب؟ وكم من كلام يموت من دون فمّي يا صاحبي كن الحوايج غدت ثوب وكن الفقر دلاّل باطراف كمّي! وبالطبع لن تكون هنا ثمّة أجوبة, لهذا تحتدم الأسئلة أكثر بصراخٍ سرمدي الألم: ليه الفقير يفصّل لثوبه جيوب يا جيوب فقره من عنا الوقت لمّي! وان أوحي الشطر الأخير بقنوط, لكنه ليس كذلك, هي مسحة يأس جزئي, فلم يزل قادرًا على فتح أبواب للفرح والبهجة وإن كانت مؤلمة لذاته, لكنه ألم سهل مقابل بهجة الآخرين: وأحاول أغسل من عنا يومي قلوب وآمرر الضحكة على عيون أُمي وأرجع أحاول قد ما فيني أتوب وكل الكلام يموت من دون فمّي ويمضي بين الحواري البسيطة الصادقة بعيدًا عن صخب المدينة الكاذب, والمنافق في أكثر حالاته ضوءًا, يقرأ تعبه وحشرجاته بعيدًا عن تملق عماراتها الشاهقة: تعبت أدوّر للشقى والوجع فم وأعيش ساكت والجفا يعتريني ترميني الحارة على أطرافها هم وأجلس واناظر كيف يذبل حنيني حتى الليالى ساكنه..مابها دم كني عليها عالةٍ..ماتبيني! ودائمًا تطارده تلك الأحياء البسيطة الشائكة، تغذيه بالحنين والشجن والغناء, ويراها بقلبه وفيةٍ له/لأهلها, فهي رمز البساطة والامنيات السهلة المستحيلة: جيتك معي صورة لضحكة قديمة لبيوت ماستسقت عبث لون رسّام وكأنها تنام بين أصغريه بأمانٍ تام, يُلبسها من روحه كلها, ولا يهمك أن أسلم جسده للعراء, فالدفء ينبعث منها له: وأنام عاري ماستر ضيقتي أُم أنام خاوي.. والتعب يحتويني وشاعرًا نشأ مورقًا بالحب المُتعب منذ حبا بدروب التعب, ومنذ قرأ الريح ليس كانها تحته كما أبا الطيّب, لكنها كانت نداءً وحاديًا: ونشأت مورق للمحبة عودي أحبي على صدر التعب لأعيادي والحيّ غنّا.. وميّلن ورودي الريح كنه صار صوت الحادي والبيت يحفظ كيف يبدأ زودي والحوش يرسم ضحكتي وعنادي اذن حكاية الحي القديم/البلدة ليس سوى البيت الذي كبر بداخله.. فالحبو كان رحلة من ضحكة البيت حتى عويل الحارة, فالطرق ليس بأقصرها, ولكن بأكثرها جهدًا ودهشه: (وللمدرسة طعم الندى/بخدودي أمشي وأغنّي: سارعي يابلادي قالوا لي الأقصي بيْدين يهودي وقالوا لي بكرا تنتظر وتعادي! وكل يوم أجدد للسلام وعودي وأكبر.. وتصغر رجعتي لامجادي ويبقى أحمد عايد البلوي هذا الشمالي المُنحاز لقضيته, وشعره يأخذ من الحواري بساطتها, ولكنه يُضيف لهذه البساطة عمقًا يستمده من تجاعيد كهولها, وصبر نسائها, وأحلام مراهقيها الساذجة بحسبة العصر, وقد يتجاوزها ليدعو الواقع للعبة, ربما لا رغبة بالفوز, بقدر ماهي استراحة لفارس أحب أن يُبتسم: عادي لو يدينك تراجف من البرد ماتشوف قلبي يرتجف من جراحي جب طاولة صدرك.. أبي ارمي النرد واذا النتيجة ثنين.. أطلق سراحي وبعد: تظل نكهة الاحياء القديمة وشوارعها، وحتى رائحة شال أم تسكنها, عابقةٍ بحروف هذا الأحمد الكريم, في وقتٍ أصبح الشال لا يُلهم الا علامة عُري لا جلباب ستر, وتبقى نصوص الجميلين من الشعراء مُتعبة في البحث عنها كشعراءها البسطاء / العظماء الذين لم تدون ذاكرة قوقل -للأسف- سوى القليل, وقدرهم أن قصائدهم لا تحمل «البلل» فهي إذن لا تُشجع أولئك على»النشر».