إنهم يتصرفون بمثل هذه السلوكيات النخبوية المترفعة، وكأنهم من طبقة اجتماعية عُليا ذات دماء زرقاء مختلفة عن دماء عموم الناس يُروى أن لغويًا متنطعًا سأل خادمه سؤالًا غامضًا، فقال: يا فلان "أصَقَعتِ العتاريف؟". فلم يفهم الخادم شيئًا من هذا السؤال العجيب، فأراد أن يعامله بالمثل فقال له: "زقفيلم". فقال اللغوي: وما "زقفيلم"؟ قال الخادم: وما معنى صقعت العتاريف؟ قال قلت لك: أصاحت الديوك؟ قال الخادم: وأنا قلت لك لم يصح منها شيء. هذه الطرفة تكشف عن حقيقة أن خلل (التعالي باللغة) يعتري تكوين بعض الشخصيات المهزوزة في ثقتها بنفسها، وهذا الاضطراب النفسي كان قديم الوجود في البيئة الثقافية والفكرية كما توحي الطرفة الآنفة. تحدث عن أوضح نقطة بأعقد لفظة! وهذا هو الضلع الثاني في (مثلث التمرد الفكري): كن غامضًا وتحدث عن أوضح النقاط بأعقد الألفاظ، كما هو حال الكثير من المتسلقين الجدد على أسوار الفكر، الذين يرون أنه لا يمكن تحقيق أي مكانة في عالم الثقافة بلا استعمال لغة معقدة كما استعملها بعض الفلاسفة، وهذا ما جلب الكثير من السخرية لحال هؤلاء "البراعم الجدد" المشترطين لتميزهم الفكري أن ينعكس في تعبيراتهم الغامضة وأساليبهم الوعرة؛ أسوة بقدواتهم من المتفلسفة. التآسي بغموض الفلاسفة المحترفين! يتعمد بعض المفكرين والفلاسفة استعمال العبارات "غير المفهومة" أو المصطلحات المتخصصة سعيًا منهم لإيصال رسالة إلى القارئ بأن طرحهم من العمق والتعقيد ما يجعل فهم كتاباتهم من ضروب المستحيل إلا على المحترفين المتخصصين، وقد كشف "نيغيل واربورتون" في كتابه "الفلسفة - الأسس" هذه الحقيقة بعد أن أكد أن الفلاسفة يستعملون في كتاباتهم الكثير من المصطلحات "غير الضرورية" وبلا أي هدف علمي، ويقول في ذلك (ص 21): (يميل الفلاسفة المحترفون إلى استعمال المصطلحات المتخصصة من دون أي هدف، فيستعمل عدد منهم العبارات اللاتينية، حتى لو كان هناك ما يكافئها من العبارات الانكليزية القادرة على إيصال المعنى). قاموس "التعقيد" للبراعم الجدد! ولهذا تُوجه الوصية إلى (البُرعم "المُدرعِم") في عالم الفكر حديثًا، بهذه الطريقة: إن شئت أن تسير على خطى أولئك القدوات من أساتذة الفلاسفة، فعليك بنهجهم، وإليك نصيحة تضفي عليك سمات المفكر المتمرد في سويعات: لا تقل: تربوي، قل: بيداغوجي. ولا تقل: غيبي، قل: ميتافيزيقا. ولا تقل: المتعاليات، قل: الترانستدالي. ولا تقل: تفكير مغلق، ولكن قل: دوجماطيقي (دوغمائي).ولا تقل: الفهم، قل: الهرمينوطيقا. ولا تقل: الجمال، قل: الاستطيقا. ولا تقل: اجتماعي، قل: سيسولوجي.ثم لا بأس من (حزمة عبارات) لإكمال مظهريتك الفريدة من قبيل: اللوغوس، الإمبريقي، فينومولوجيا، ميثادلوجيا، الكولينالية، الكوسومولجيا.. الخ تكلم بلغة " المشعوذين " ! ذكر "كولن ولسون" في كتابه "ما بعد اللا منتمي" (ص 68) هذا النص الطريف: (كتب "براند بلا نشهارد" قطعة رائعة هاجم فيها الأسلوب "الهيجلي" في التعبير: أن تقول بأن "الميجر أندريه" قد "شُنق" فهذا واضح وغير قابل للمناقشة [والميجر رتبة عسكرية تساوي العقيد أو المقدم في البلاد العربية] أما أن تقول: بأنه "قُتل" فهذا أقل وضوحًا ويُسبب جدلًا لأنك لا تدري بأي طريقة قُتل؟ وأن تقول: بأنه "مات" فهذا غير واضح وضبابي؛ لأنك لا تعرف هل كان موته بطريقة وحشية عنيفة، أم في حالة طبيعية؟ وإذا أردنا أن نأخذه كأنموذج، ونسأل الكُتاب أن يكتبوا جملة عنه، فسنرى "سويفت" و"ماكولي" و" شو" يكتبون بكل بساطة بأنه قد "شُنق"، و"بردالي" سيكتب: بأنه قد "قُتل"، و"بوسنا كيت" سيكتب بأنه قد "مات". أما "إيمانويل كانت" فسيكتب: بأن وجوده اللا خالد قد جذب نهايته! أما "هيجل" فسيكتب هذه الكلمات: صَمّمت الأبديةُ المطلقةُ على أن تَحد من استمرار مستقبله؛ فسلبته وجوده!). وبهذا يخيل للقارئ أن المعنى الذي يريده "هيجل" أو "كانت" في غاية العمق والتعقيد، بينما واقع الحال أن الموضوع برمته يمكن إيجازه في عبارة: الرجل "شُنق"! ولهذا كان "شوبنهاور" يقول عن "هيجل" بسبب ذلك الأسلوب المعقد الغامض: إنه (دجال مشعوذ) إشارة إلى أن المشعوذين عادة يستعملون عبارات "عالم السحر" غير المفهومة. برجوازية الانتجلنسيا ! والأدهى أن ذلك التعقيد اللفظي يعزز لديهم مشاعر التقزز من مجتمعهم، بل الامتلاء "بالقرف" من عموم الناس كما يظهر في فلتات ألسنتهم وشذرات من كتاباتهم، يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم الأفضل، فهم ليسوا "من الجمهور"، إنهم "نخبة" متعالية مثقلة بالغرور والترفع. ولو شئنا أن نستعير لغتهم المتعالية بكلمات ساخرة لنصف حالهم، لقلنا: إنهم شريحة "برجوازية من طبقة الانتجلنسيا =(المثقفين) يتسمون بالذوات المتضخمة" تجاه الهموم الشعبية "البروليتارية" = الطبقة الكادحة. والعجيب أنهم يرفعون عقيرتهم مطالبين بالديمقراطية والمشاركة الشعبية وضرورة احترام الإنسان مهما كان أصله أو فكره، ومع ذلك يصفون تفكير مخالفيهم بأنه من مخرجات (عقلية القطيع)، فهل الناس في نظرهم قطعان ماشية؟! أين كرامة الإنسان عندهم؟ عنصرية تسكن في الأعماق! إنهم يتصرفون بمثل هذه السلوكيات النخبوية المترفعة، وكأنهم من طبقة اجتماعية عُليا ذات دماء زرقاء مختلفة عن دماء عموم الناس، ولهذا بدأنا نطالع قول بعضهم: أي شيء تقبله أغلبية المجتمع يجب أن تتشكك في جدواه، وهذا حكم جائر ينضح بفوقية تدل على النقص المركب في شخصية قائله، فالمفترض أن الحكم الموضوعي المتوازن تضبطه مقاييس دقيقة مبنية على مبادئ سليمة لمحاكمة الأفكار وتحديد ما يقبل منها وما يرفض، وهذه المقولة المتسمة بالرعونة الفكرية تحجب عن المغتر بها كثيرًا من الحقائق بسبب هذا التكبر المنفوخ، أن هذه التصرفات لدى هؤلاء "البراعم" لشاهد واضح على أن "عنصرية" مقيتة تسكن في أعماقهم! ولذا أقول: حتى المعرفة توجد فيها تلك "العنصرية الطبقية" المنفرة، التي تؤدي بمن ساكنته أن يحتقر غيره ويسخر منه بتعبيرات من قبيل، هم فائض بشري، أو عالة على الكون، أو يجب تطهير الوجود منهم... الخ