هناك إشكالية منهجية ما زالت حاضرة في ذهنية بعض المحافظين المعارضين للمشروع الديمقراطي وهي: أن الديمقراطية قائمة على أساس أن الشعب هو الحاكم وهو مصدر السلطات، ومصدر الشرعية للدولة والقانون، وهذا يعارض بحسب ذهنية المحافظ مبدأ حاكمية الإسلام. لأن النظام السياسي في الإسلام يقوم على أساس أن المرجعية للشريعة وليس الشعب والديمقراطية تقوم على أساس أن الشعب هو المرجعية. وبالتالي لا يمكن أن تكون الديمقراطية متوافقة مع الإسلام. هذا ما يعتقده المحافظ. والحقيقة أن هذا الاعتقاد قائم على تصور مشكل يحتاج إلى شيء من التفكيك والتحليل. وإشكاليته في أنه يجعل العقل المسلم بين خيارين إما الشعب وإما الشريعة والمقابلة بين الشعب والشريعة مقابلة بين موضوعين مختلفين تماما، وذلك أن موضوع الشعب هو: السلطة، وموضوع الشريعة هو: المرجعية، وبالتالي المقابلة بين السلطة والمرجعية مقابلة غير منطقية إنما المقابلة المنطقية تكون بين سلطة وسلطة، أو مرجعية ومرجعية. فمرجعية الشريعة يقابلها مرجعية الفلسفات الوضعية، وسلطة الشعب يقابلها سلطة الفرد، وبالتالي فنحن أمام خيارين في موضوع السلطة: إما الشعب وإما الفرد المستبد وليس الشريعة، وأما في موضوع المرجعية فنحن بين خيارين مختلفين تماما: إما الشريعة وإما الفلسفات الوضعية وليس الشعب، فالشعب ليس مرجعية في تحديد منظومة القيم والخير والصلاح، إنما الأديان أو الفلسفات الوضعية هي التي تحدد هذه المنظومة. مشروعية المرجعية مشروعية معرفية عقائدية لا تتحصل عن طريق الأغلبية أو التصويت، وإنما عبر الأدلة والبراهين العلمية المعرفية، فهذه البراهين والأدلة هي التي تمنح المرجعية مشروعيتها، أي هي التي تكسبها صفة الحقيقة، وهذا ليس في الأديان فقط بل حتى في الفلسفات والمعارف، فالفيلسوف والعالِم عبر تاريخ المعرفة لا يستمد معرفة الحقيقة من خلال تصويت الأغلبية وإنما من خلال البحث المعرفي وتحصيل الأدلة والبراهين. وكذلك الشريعة الإسلامية لا تستمد مشروعيتها من خلال صوت الأغلبية وإنما عن طريق الوحي الذي دلّ على كونها حق وأنها واجبة الاتباع، فلزوم اتباع الشريعة هو مقتضى الشهادتين: «شهادة التوحيد والشهادة الرسالية» وهذا محكم في القرآن ومقرر في السنن وكتب العقائد، ولا يغير هذا الحق في كونه حق شرعي واجب الاتباع معارضة الأغلبية له، لأن الأغلبية لا تغير الحقائق في نفسها، فلو صوت الأغلبية بإلغاء الشريعة كإطار مرجعي للقوانين لا يغير ذلك من الحقائق الشرعية في شيء وتبقى الشريعة هي الحاكمة في عقيدة المسلم، ويكون الواجب على المسلم في مثل هذا الحال: الإنكار والرفض والنضال المدني السلمي في دعوة الناس وإقناعهم بخيرية وأحقية الشريعة. المقصود أن مرجعية الشريعة تستمد أصولها ومسائلها من مصادرها الأصلية: القرآن والسنة، فما قرره القرآن والسنة هو الدين وإن رفضته الأغلبية، هذا من جهة المرجعية. لكن يأتي السؤال: من أين تستمد هذه المرجعية سلطتها السياسية؟ أي سلطتها الدستورية والتنفيذية؟ من يجعل الإسلام إطارا مرجعيا للقوانين الدستورية وللأنظمة التشريعية في الدولة؟ من يمنح الشريعة السيادة الدستورية؟ السيادة الدستورية وليس السيادة الدينية، وبينهما فرق كبير ما زال البعض يخلط بينهما، فالشريعة بلا شك لها السيادة المطلقة عند المؤمن من جهة الدين ولكن هذه السيادة لا يلزم منها أن تكون سيادة دستورية، والدليل هو شاهد الواقع والتاريخ، فكل المسلمين يعتقدون بالسيادة المطلقة للشريعة ولكن ليس لذلك أي أثر في دساتيرهم ولا في مراقبة ومحاسبة حكوماتهم «وإن كان ذلك مكتوبا» إذن السؤال: من أين تستمد الشريعة سيادتها الدستورية؟ الجواب بكل تأكيد: من السلطة. وليس غير السلطة! السلطة هي التي تنقل الإسلام من كونه عقائد وشرائع في القرآن والسنة إلى كونه إطارا مرجعيا في دستور الدولة، فلا يكفي الاعتقاد بأنه يجب على المسلم أن يؤمن بأن الإسلام إطار مرجعي للدولة ثم ننام على ذلك، بل لا بد من السلطة لتحقيق هذا المبدأ في الواقع. يأتي حينها السؤال من أين تُستمد هذه السلطة التي تنقل الإسلام إلى أن يكون إطارًا مرجعيا لدستور الدولة؟ الجواب: نحن بين خيارين: إما الأمة بمجموعها «أي الشعب» وإما الفرد القاهر المتغلب؟ الديمقراطية تقول الأولى، فماذا يقول الإسلام؟ هنا اترك الجواب للقارئ الكريم لأن هذا السؤال ليس هدفي من هذه المقالة. إنما أردت فقط أن أبين الفرق الجوهري بين سؤال السلطة وسؤال المرجعية، فسؤال السلطة مختلف تماما عن سؤال المرجعية، والسيادة الدستورية تختلف تماما عن السيادة الدينية، السيادة الدينية تتحصل من الوحي المقدس بمثابة العقيدة لدى المؤمن، ولكن السيادة الدستورية لا تتحصل لها إلا عن طريق الأمة، فإذا كنا نعتقد بأن مرجعيتنا حق وأنها واجبة الاتباع فلا يعني أننا امتلكنا السلطة لتحقيقها وفرضها، فالسلطة بمفهومها السياسي شيء خارجي عن الحقيقة، لا يلزم من معرفة الحقيقة امتلاك السلطة السياسية، وهذه نظرية لم يستوعبها البعض إلى الآن، فالبعض يتصور ما دام أنه يمتلك الحقيقة فهو بالتالي يمتلك مشروعية السلطة أي الحق في إجبار الناس وقهرهم عليها، وهذا لم يكن هو منهج الأنبياء عليهم السلام، فالأنبياء عليهم السلام كان يعتقدون اعتقادا جازما بأنهم يمتلكون الحقيقية الدينية ومع ذلك لم يمتلكوا مشروعية السلطة ولم يجبروا الناس ويقهروه عليها، وما امتلك الأنبياء السلطة إلا عن طريق الافراد الذين آمنوا بهم واقتنعوا برسالتهم. هؤلاء الأفراد الذين أصبحوا مجتمعا انبثقت منهم السلطة.