"تلال العقارية" تشارك كراعٍ بلاتيني في منتدى العمران الرابع    برئاسة السعودية.. إبراز الهوية على طاولة «إذاعات العرب» في تونس    الدولار يقترب من تسجيل أعلى مستوى في عامين    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن أربعة مشروعات طبية تطوعية في الكاميرون    أكثر من 600 خدمة في "توكلنا"    الصناعة تُعلن الشركات الفائزة برخص الكشف في الجولة السابعة للمنافسات التعدينية    مستشفى الملك بالمجمعة يستقبل 8 حالات طارئة إثر حادث مروري    استشهاد 12 فلسطينيًا في قصف إسرائيلي على منزلين جنوب قطاع غزة    استمرار الرياح النشطة مع توقع أمطار خفيفة وضباب على بعض المناطق    17 نصيحة من «المساحة الجيولوجية» لمواجهة مخاطر الزلازل    محترف الهلال: اللعب في السعودية تجربة ممتعة.. وانتقالي ليس من أجل المال    «الساونا».. كومة فوائد لصحتك    شتات «الميرينغي»    إنجاز علمي جديد.. «محمية الملك عبدالعزيز الملكية» تنضم للقائمة الخضراء الدولية    مدير تعليم جدة: نتعامل بدقة مع البلاغات الطارئة    وزارة الداخلية في مؤتمر ومعرض الحج .. الأمن في خدمة ضيوف الرحمن    «الشورى» يناقش مقترح مشروع «نظام رعاية الموهوبين»    مرحلة التصويت تغلق.. وإعلان الفائزين في حفل ل"Joy Awards 2025" السبت المقبل    «إسرائيل» تطالب بترحيل الأسرى إلى الخارج    تواصل ارتفاع إجمالي الطلب العالمي للشحن الجوي للشهر 16 على التوالي    ولي العهد يتلقى اتصالاً هاتفياً من رئيس جمهورية البرازيل الاتحادية    الهلال يغري نونيز نجم ليفربول براتب ضخم    بعد انقضاء 16 جولة من دوري" يلو".. نيوم في الصدارة.. والعدالة يواصل المطاردة    " الضوضاء الإعلامية وحارس الفيحاء"    "عدنان حمد" يقود أول حصة تدريبية للعروبة .. والسومة يشارك في التدريبات    الصناعة تطلق 15 ممكناً وحافزاً في برنامج "المشغل الاقتصادي"    مترو الخرج    ترشيد الإنفاق الأسري    "محمية الملك عبدالعزيز الملكية" تنضم إلى القائمة الخضراء الدولية    محمد بن عبدالرحمن يقدم التعازي للحميدان و بن حشر و بن نوح    أمير الجوف يشيد بدور "حقوق الإنسان"    إقامة ملتقى إضاءة عسير للأشخاص ذوي الإعاقة    مقترح للدراسة في رمضان    «اجتماعات الرياض» تبحث إعادة بناء سوريا وتحقيق أمنها    ميزة لإدارة الرسوم المتحركة بمحادثات «واتساب»    700 ألف إسترليني لتحرير غوريلا مسجونة    قرية "إرث".. تجربة تراثية    تطلق وزارة الثقافة مسابقة "عدسة وحرفة" احتفاءً بعام الحرف اليدوية2025    تشوه المعرفة    بمشاركة عربية واسعة.. «إثراء» يطلق النسخة الرابعة من ماراثون «أقرأ»    لا ناقة لي ولا جمل    برعاية الأمير فيصل بن خالد.. إطلاق جائزة الملك خالد لعام 2025    نزيف ما بعد سن انقطاع الطمث    تناول الحليب يومياً يقي من سرطان القولون    النوم في الظلام.. يقلل مخاطر الاكتئاب    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان أثناء استقبال محافظ الداير له " على عاتقنا مسؤولية الوقوف كدرع منيع لحماية هذا الوطن "    العراق وترمب.. لا منطقة رمادية    من إدلب إلى دمشق!    أرقام «الإحصاء».. والدوسري.. وصناعة المُستقبل    انطلاق دوري الفرسان التطويري بمشاركة 36 فريقاً    هل أطفالنا على المسار الصحيح ؟!    تحديث وإنجاز    فيصل بن مشعل يزور محافظة أبانات ويلتقي الأهالي    ختام مؤتمر مبادرة رابطة العالم الإسلامي لتعليم الفتيات في المجتمعات المسلمة    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير إدارة المساجد بالمحافظة    المسجد النبوي يحتضن 5.5 ملايين مصل    هل نجاح المرأة مالياً يزعج الزوج ؟!    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة فهدة بنت فهد بن خالد آل سعود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القبيلة والمجتمع النفس المرة
نشر في الرياض يوم 28 - 02 - 2008

يمثل الشعر سجلاً ثقافياً للحياة العربية وهذا مبدأ ثقافي عام يصل إلى حد القانون العلمي، ولقد ذكر ما رسيل كوربر شوك في كتابه (البدوي الأخير - ص48) أن شيخا من شيوخ البدو نصحه بعدم تصديق الحكايات التي تروى عليه شفاهيا وقال له إن الشعر هو المصدر الموثوق لأن الأوزان والقوافي تحفظ نظام القول ولو غير الراوي في النص الشعري سهل انكشاف أمره على العكس من القصص المروية حيث يتلاعب الراوي بالرواية حسب المقام كما يؤكد الشيخ البدوي.
ولا شك أن الشعر عند العرب يمثل مرجعيتهم الجوهرية ونذكر هنا كلمة عمر بن الخطاب بأن الشعر علم قوم لم يكن لهم علم سواه، وكلمة ابن عباس في أن الشعر ديوان العرب، أي سجلهم الذهني والذوقي.
لذا فإن العودة إلى النصوص الشعرية ستكشف لنا نماذج للنظام الذهني الثقافي العربي وستعطينا صوراً حية لهذه النماذج وهنا سأقف على ثلاثة نماذج هي نموذج النفس المرة ونموذج الناقة الحزينة ونموذج النفس المتوازنة، وأستمد هذا من ثلاث قصائد للشنفري وللمثقب العبدي ولدريد بن الصمة.
لقد وصفت قصيدة الشنفرى بأنها لامية العرب، وأظنها كذلك لما تحمله من قيم ذهنية تمثل الذات المترحلة والتي ترى الترحال والتوحش قيمة ذاتية تصون الذات عن الهوان، وهو مفهوم يقف في مقابل الاستقرار الذي يعني تسليم الذات قيادة الأمور لإدارة تتحكم في مسار الحياة، وهو يقول في ذلك:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
والكريم عنده هو الذي يأنف من سلطة التحكم إذا لم يجد في من حوله حسا مماثلاً في سرعة التحول والثأر للنفس المرة كما يسميها، وقد خاطب قومه كاشفا لهم عجزهم عن بلوغ المعنى المثالي للفئة النموذجية فافتتح قصيدته مقرعا إياهم على سكون ظاهري عندهم:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
وشدت لطيات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
هنا تعريف صريح للكريم وهو يقابل المترحل، ومن لا يترحل ثأراً لذاته فليس بكريم، وهو معنى جوهري يمنح الدلالات قيما وجودية ترتبط بسلوك الذات مع ظرفها، وفي ذلك دعوة صارخة ضد السكون واستنفار للرحيل بمعناه الحسي والرمزي، وفي قوله: أقيموا صدور مطيكم يعني الشروع في رحلة الانتصاف للذات المجروحة وهي الذات المرة إياها، وهي لحظة تحول ينذرهم بها من قوم يقيمون على السكون إلى قوم أهل ترحال تميل لهم نفسه التواقة، وتلك لحظة ترتفع فيها حرارة الأشياء (حمت الحاجات) بينما يتحدد زمن الرحلة بتوقيت فلكي ملائم هو الليل والقمراء حيث يتسع صدر الأرض للراحلين وسراة الليل.
وسيتحدد المعنى أكثر عبر الأبيات التالية التي تصف النموذج المتخيل للقوم المثاليين:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيال
والمقصود هنا الحيوانات الصحراوية الأكثر توحشا والأكثر ترحالا وهي الذئب والنمر والضبع، بما لها من صفات جوهرية هي العملس والزهلول والجيأل، والعملس ترمز لسرعة الجري وهي تتكامل مع الصفات والألوان الأخرى التي تصنع أطياف الصحراء والليل والفضاء المفتوح، وهي متصور نموذجي عن الحيوانات التي لا تهدأ عن الحركة والتحول وتحقق رمز التوحش التام أي الاستقلال التام، والشاعر يجعلها أهلا له وينسب حياته إليها لأنها تمثل السلوك المبتغى كما يصفه في قوله:
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
وكل أبي باسل غير أنني
إذا عرضت أولى الطرائد أبسل
وهو هنا يضرب على قيمة عميقة الجذور تشير إلى مبدأ نسقي غائر في النسيج الذهني البشري والحيواني معا، وهو المعنى الأخطر في كل الثقافات، ألا وهو معنى الظلم ودلالات الظلم، حيث هو دليل قوة وتميز، ومن لا يظلم الناس يظلم، وإن لم تك ذئباً أكلتك الذئاب، والظلم من شيم النفوس، ولقد سأل عبدالملك بن مروان أعرابياً ورد إليه من العراق سأله عن الحجاج كيف هو فقال: تركته يظلم وحده، إشارة إلى معنى افتخاري وتبجلي يفرد ذلك الرجل بمزية نسقية يستخلصها لذاته.
وهؤلاء القوم المختارون كنموذج سلوكي هم من يمثل القيمة العليا لسلم المظالم حتى إن الجاني نفسه يكون في حمى هؤلاء (ولا الجاني بما جر يخذل)، وهذا إغراق في تمثل المعنى العميق للظلم بما إنه قيمة متوخاة تمنح صاحبها منزلة يستحق عليها الثناء، وهذا يستدعي بيت شعر جاهلي شديد الدلالة يقول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
وهو بيت يأتي وسط مقطوعة شعرية لا تختلف الحال فيها عن حال الشنفرى ولننظر في سياق هذا البيت وفيه:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
وهي أبيات وردت في مقدمة مختارات أبي تمام (ص17) وكأنما هي النموذج الثقافي المحتذى وكما سموا قصيدة الشنفرى بلامية العرب فإن هذا النص هو من مختاراتهم النموذجية وفيه تماه تام مع نص الشنفرى وروحه الثقافية النسقية في مفاهيم التوحش والتفرد والقطعية.
ويجب ألا ننسى أن هذه خاصية ثقافية عامة أي أنه نسق ثقافي تجده عند جورج دبليو بوش وتوني بلير كما تجده عند الشنفرى وما حيوانات الشنفرى إلا صورة نموذجية لحيوانات بوش الذين أيدوا سياساته الحربية والعدوانية دون أن يطلبوا منه برهانا، كما إن أمريكا تمنع محكمة الجنايات الدولية من محاكمة المواطنين الأمريكيين مهما كانت جرائمهم، حسب قانون (هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جر يخذل)، كما وصف الشنفرى حيواناته النموذجية، وهي على وجه التحديد لغة النسق ونظام سلوكه الأبدي، ولو طلب أحد منا ترجمة ثقافية لنظام جورج دبليو بوش الفكري والأيديولوجي لما رأى أفضل من أبياتنا تلك في مختارات أبي تمام، عن نصرة الشر وعن تصديق الصاحب في النائبات حتى لا يسألون على ما قال برهانا.
ونعود إلى (النفس المرة) كما وصفها الشنفرى:
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي
على الذل إلا ريثما أتحول
هذه النفس المرة هي نفس ترى التوحش صيانة أخلاقية وحصانة نفسية ضد ظروف المعاش العام، وهي ضد التوافق التصالحي لأنها ترى منظومة القيم المتوخاة كما ذكرها الشنفرى لا تتحقق إلا بالترحل ومزيد من التوحش، وهي فكرة تتكرر عند غير الشنفرى وفي البيت المشهور:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
وهي صيغة ثقافية ذئبية بما تحمله سمة الذئب من صفات التوحش والقوة والتفرد والذكاء ومن كون كل ما هو خارج النوع بمثابة الصيد المتاح.
والشنفرى هنا لا يثور على جماعته لأنه يريد أن يقيم تمرداً على نظامهم الثقافي أو الاجتماعي - كما يتوهم الكثيرون - ولكنه هنا يثور عليهم مستنكراً تخاذلهم عن تمثل ذلك النظام الافتراضي ويسعى إلى الدفع بهم إلى مزيد من التوحش، وهو ليس ضد هذه القيم وإنما هو بصدد تأسيس نظام قيمي أشد تطرفا من النظام الواقعي الذي يعترض عليه، ولذا وصفوا قصيدته بأنها لامية العرب لما فيها من تمثل للنموذج الصحراوي المغرق في صحراويته، وهي ليست ثورة ضد المجتمع، وما كان مشروع الصعاليك بثورة إلا بالمعنى التطرفي نحو نظام أشد صرامة من الواقع، وأكثر إغراقاً في التوحش حتى صارت الذئاب والنمور والضباع هي نماذجه المتوخاة، وهو نموذج النفس المرة كما نصفه هنا. إنه نموذج يقوم على تصور أن الصفاء الأخلاقي هو في تبني صفات التوحش المطلق، وأي نقص في منظومة هذه القيم هو نقص في النموذج ذاته ويقتضي هذا الخروج على الجماعة ومجافاة حياتهم الساكنة لتحقيق معاش أكثر انسجاما مع هذا المفهوم ويجري اختيار النموذج من كائنات تعزز المعنى الصحراوي للذات المرة المحتبسة من سكون الأشياء والمطالبة بالرحيل والمفارقة وهي افتراق معرفي يسعى لتأكيد القيم التقليدية للنسق بما إنه حالة تشخيص فرداني وقطعي وله معانيه الخاصة التي لا تقبل المهادنة، وكل مهادنة في المقام تصبح خيانة للشرط النسقي (ليسوا من الشر في شيء وإن هانا) وهو ما يستوجب المفارقة، (فإني إلى قوم سواكم لأميل/وقد حمت الحاجات والليل مقمر)، وعدم تمثل هذا هو ضرب من الخروج غير العقلاني وفاعلة مصاب بلوثة (ذو لوثة لانا) وهنا تصير الرحلة هي الجواب، وتتم المفارقة بين محورين لا يمكن التأليف بينهما، والحل سيكون في تأسيس المعنى الثقافي الكلي في قصيدة تحفظها الأجيال، ويقابله اليوم قرارات مجلس الأمن بوصفها ملحميات عصرية في حسم القيم الكلية للغة التسلط المطلق.
هنا سنرى أنفسنا نتحدث عن نموذج ثقافي يوازي النموذج السلوكي حيث صفاء القيم يسير مع صفاء النسب، والتوحش التام يعني الصفاء التام في النسب والتناسب بين الأعضاء وفي السلوك، ولذا يختار الشنفرى عائلته من النماذج التي تتمثل فيها صيغته الذهنية المترسخة فيه ولا يرضى بالمختلف بل يفارقه وينأى بنفسه عنه بما إنه نفس مرة متحولة، وهو تحول لمصلحة الذات النسقية.
ويبقى علينا أن ننظر في نموذجين آخرين يختلفان جذرياً عن هذا النموذج والثلاثة أساسية لإعطاء تصور متكامل عن الذات في حال توحشها كما هنا وفي حال نزوعها الرومانسي كما سنرى عند المثقب، وفي حال جنوحها للتوازن والمصالحة الوجدانية كما لدى دريد بن الصمة أو لنقل النفس السوية مقابل النفس المرة وهو موضوع الحلقة القادمة والتي تليها - إن شاء الله -.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.