يجتمع هذا الأسبوع الذي نحن فيه ابتداءً من يوم السبت الماضي إلى الأربعاء نخبةٌ ولفيف ٌ من علماء الأمةِ وفقهائها وباحثيها، ومن مختلف أقطار المعمورة؛ ضمن منظومةٍ علميةٍ راقية تُسمّى (مجمع الفقه) وأعني به هنا: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكةَ المكرمة حرسها الله؛ والذي يرأسه سماحة مفتي عام المملكة وفقه الله. وبصفتي أحد المشاركين والباحثين في هذه الدورة الفقهية وغيرها من دورات هذا المجمع المبارك، فإني ألمس عن قرب وأتحدثُ عن علم حول مدى ذلك الجهد العلمي وتلك المهام العظيمة التي يتحملها هذا المجمع بأعضائه وباحثيه وفريق العمل فيه. إن الفقه الإسلامي وبطبيعته وبما يحويه من قواعد ومبادئ ونظريات قادرٌ ولاشك أن يواكب متغيرات الزمان والمكان، وأن يكون له كلمة الفصل في القضايا التي تحتاج لبيان حكم الشرعِ فيها، ومن كان له إلمام أو اطلاع على المنهج العلمي الذي ورثناه من خلال علم أصول الفقه وقف حقيقةً على مكانة هذا الفقه وعبقريته ومقدار الجهد الجبار الذي بذله فقهاء الأمة في تأصيله وصياغته وتقعيده، ليكون حيًّا يعيشُ معنا بنصوصه وقواعده وروحه! وهو كما قال الإمام المؤسس والمُدون الأول لعلم أصول الفقه في رسالته الأصولية المشهورة: (وليس تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتابِ اللهِ سبيل الهدى فيها). ومن هنا فالواجب كبيرٌ على علماء العصر وطلبة العلم المُتخصصين في الفقه وأصوله أن يثبتوا للجميع مكانة هذا الفقه وقدرته لاستيعاب الحوادثِ والنوازل. وهذا هو تحديدًا ما تقوم به مجامع الفقه المختلفة ومنها مجمع الفقه بالرابطة، حيث يعقد هذا المجمع ويجتمع الفقهاء ويُستكتب الباحثون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي وغيره؛ حتى يكتبوا ويناقشوا في مسائل وقضايا جميعها من القضايا المعاصرة التي تحتاج إلى بيان، وبعض هذه القضايا تفدُ إلى المجمع من بلادٍ بعيدة غير مسلمة تظهر للأقليات المسلمة هناك مشكلات وقضايا تحتاج إلى بيان حكم الشرع فيها، ولا تصدر الفتوى من المجمع إلاّ بعد أن تمر بمراحلَ منهجية، من أهمها سؤال أو استضافة أهل الاختصاص من أطباء أو اقتصاديين أو فلكيين إن كانت المسألة لها تعلّق بشيء من هذه الجوانب! حتى يتحقق مناط المسألة تمامًا وبصورة دقيقة، وهذا الجهد العلمي يستمر شهورًا طويلة من الاستكتاب، والبحث، والسؤال، والتحكيم، ثم الاجتماع، والاستماع، والنقاش الطويل الذي يستمر لمدة خمسة أيامٍ متواصلة في جلساتٍ صباحيةٍ ومسائية. والمجمعُ لا يُناقش في غالبِ أعمالهِ ودوراتهِ ولا يبحثُ إلا المسائل والقضايا المعاصرة مما يسمى بفقه النوازل، وكثير جدًّا من المعاملات البنكية والمالية والمسائل الطبية المعاصرة ناقشها المجمع وأصدر فيها الفتاوى المناسبة. وفي هذه الدورة التي لا تزال منعقدة يُناقش الفقهاء مسائل معاصرة تحتاج إلى نظرٍ فقهي عميق ودقيق، ومن ذلك: زكاة الدين المؤجل في المعاملات المالية المعاصرة، إيقاف العلاج عن المريض الميؤوس من حياته، زواج القاصرات، وبعض المسائل الطبية المعاصرة، ويناقش في ندوة مستقلة ما تتعرض له الأسرة المسلمة لاسيما في الغرب من محاولات لإضعاف رابطتها وتهديد كيانها الشرعي والاجتماعي! إن هذا الجهد العلمي الكبير يدفع تلك التهم التي يثيرها بين آنٍ وآخر منْ لايعلم أو يتجاهل بدعوى أن فقهاء الأمة لا يناقشون إلاّ المسائل المكرورة القديمة في الطهارة والطلاق ونحوها!! ومن أسباب رواج هذه الدعوى أن الإعلام بمختلف قنواته لا يولي هذا الجهد العلمي حقه من التقدير والاهتمام والنشر، في مقابل اهتمامه الكبير والمركز على الأنشطة الرياضية والفنية! ولعل من أسباب ذلك أيضًا أن هذه المجامع الفقهية تحتاج إلى أن تلتفتَ إلى الإعلام وتتواصل معه بالشكل اللائق والمناسب، وأن تتجه لوسائل الإعلام التقليدي أو الجديد. وفي ختام هذا المقال: أوجه شكري الخالص لفضيلة أمين المجمع صديقنا أ.د. صالح بن زابن المرزوقي على ثقتهِ وعلى جهده ونشاطه المذكور والمشكور. [email protected]