هل مراقبة المجتمع تغني عن الرقابة الذاتية؟ وما دور الرقابة الذاتية في منظومة العلاقات بين الفرد ومجتمعه؟ وما الآثار التي يجنيها الفرد والمجتمع من تعزيز قيمة الرقابة الذاتية ؟ وإلى أي مدى يمكن استثمار الرقابة الذاتية في منظومة القيم الحضارية المعاصرة؟ وما أهمية الرقابة الذاتية وآثارها وكيفية تعزيزها.. حزمة من التساؤلات حملنها إلى بعض الدعاة والمختصين نطرحها في سياق هذا الاستطلاع: بداية أوضح الداعية الدكتور محمد الدويش أن الله عز وجل يقول: «إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» فتلك عفة اليد، ومتى ما قلّت الرقابة تأوّل المتخوضون في المال العام بأن ذلك ملك الجميع، وأنه أحق من أخذ، في بُعدٍ عن إدراك خطر العبث بالمال العام، وأنه سرقة من جيب الأمة كلها، وليس جيب أحد بعينه، وأن الأخذ بغير حق لعب بحقوق الأمة كلها؛ يعود علينا جميعًا بالضعف والفقر والتخلف، ورقابة المسلم على نفسه تدفعه إلى عفة الفرج. وبين الدويش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وتلك الرقابة هي البرهان الرباني الذي رآه يوسف عليه السلام فدفعه إلى عفة الفرج لما راودته امرأة العزيز، «وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»، فهو الذي يراقبه ويراه، «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ»، فهذا البرهان حجبه عن التفكير الجاد في الإثم أو مقاربته. مضيفًا بأن رقابة المسلم على نفسه تحجبه عن الخوض في أعراض الناس باللسان، وهتك أستارهم بالكلام المذموم من غيبة ونميمة وبغي، كما يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا». ويؤكد الدويش أن تقوى الله ومراقبته تمنع عن الخوض في مثل هذا الإثم، لأن الرقابة الذاتية متصلة بمعنى الإيمان بالله وقوته، والمراقبة أحد تجليات معنى الإيمان في نفس العبد. النفاق الاجتماعي ويضيف الدويش بأن الرقابة الذاتية تظهر كذلك في عفة اللسان حيث يقول تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». وكل ذلك لتنمية الإحساس الداخلي عند المؤمنين بأن الله يراهم، ومطّلع عليهم؛ لإشعارهم بحقيقة الرقابة الذاتية الدائمة التي تحجب الشر، وتدفع إلى عمل الخير؛ حتى يستوي عند المؤمن عمل الجلوات والخلوات والسر والعلن. وبيَّن الدويش أن من الأخطاء الكبيرة فرض رقابة سلوكية صارمة على الإنسان في مرحلة من مراحل حياته، بمعنى إشعاره بعجزه عن فعل هذا الإثم أو المفسدة؛ لأن ذلك يدفع الشاب -من وجهة نظرالدويش- إلى نوع من التحدي، وإثبات الذات، ويحضّر لنوع من المقارعة والمواجهة، وقد يسبب له ذلك حب هذا الممنوع واللهفة عليه، وقد يسبب له تعقيدًا فترة من حياته، وأكد الدويش أن المحاصرة والإفراط في المنع والحجر يصنع نوعًا من الخوف من الرقيب البشري لا من الله، ويخلق نفاقًا اجتماعيًا، ويحول الناس إلى كائنات شكلية تراقب المظهر فقط وتعتمد عليه وتتجاهل المخبر، وتنسى معنى الإيمان والمراقبة، معتبرًا أن ذلك كله يقلص الانسجام الشخصي في كيان الإنسان المسلم، وشدد الدويش على أن هذه المحاصرة جرم عظيم بحق المعاني التي تربى عليها المسلم، وبحق شخصية هذا الإنسان, وبحق المجتمع الذي قد يحرم من طاقات وقدرات ومواهب قتلتها التربية الفاسدة. الرقابة سر النجاح من جهته أوضح المستشار الاجتماعي بندر العمري أن الرقابة الذاتية هي: كيف تحاسب نفسك بنفسك دون رقيب ولا حسيب؛ فتجد -مثلًا- شخصًا يمنع نفسه من أن يرتكب خطأً، أو يقول ضميري يمنعني، وشخصًا آخر ارتكب خطأً فيقول ضميري أنبني. ويضيف العمري أن الرقابة الذاتية هي سر من أسرار النجاح؛ لأن الشخص دون أن يدفع من الخارج هو من ذات نفسه يبادر ويقوم بالعمل ليس إرضاءً للناس ولكن إرضاءً لله عز وجل، مبينًا أن الإخلاص في أي عمل نقوم به مرتبط بالرقابة الذاتية، إذ أن أعلى مراتب الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. مضيفًا أن الرقابة الذاتية إذا توفرت في الإنسان فإنه لا يحتاج لرقيب أو حسيب. العقوبات الصارمة من جهته أكد الداعية محمد هادي القحطاني أن الرقابة الذاتية الحقة لا تجلب أبدًا من الخارج، وإنما هي شعاع من نور، يولد ويكبر في داخل الإنسان، ويضيء جوانب الحياة كلها، ويجعلها أكثر قيمة ومنطقية، وأكثر تهيّؤًا للنمو والتقدّم والاستمرار، وكل ذلك مرهون بأوضاع تسود فيها الأحكام الأخلاقية، ويعلو فيها صوت الالتزام والاستقامة، وترفرف في أرجائها إشراقات النفس. وبيَّن القحطاني أن الطريق الوحيد للوصول لهذه الحالة يكمن في تدعيم الرقابة الذاتية، وتعزيز علاقة العبد بربه -جل وعلا- وتحفيز الإرادة الخيِّرة في الناس. ويشير القحطاني إلى أن هذا الحل وإن كان مكْلفًا على المدى القريب لكنه سفينة نوح على المدى البعيد، وأكد أنه لن يكون في إمكان أفضل النظم الاجتماعية، ولا في إمكان أقسى العقوبات الصارمة أن تقوِّم الاعوجاج، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ عن ذبول النفس، وانحطاط القيم، ملمحًا إلى أن العقوبات الصارمة لا تنشئ مجتمعًا لكنها تحميه، وأن النظم مهما كانت مُحكَمة ومتقَنة لن تحول دون تجاوز الإنسان لها، وتأويلها بما يجهضها؛ فكل الحضارات المندثرة تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها شاهدةً على نفسها بالعقم والعجز، وأشار القحطاني إلى أننا اليوم في أمس الحاجة إلى إيجاد مدخل جديد للتنمية الأخلاقية يقوم على منح بعض الثوابت القيمية والأخلاقية معاني جديدة، أو اهتمامات خاصة ببعض مدلولاتها، بغية التخفيف من حدّة وطأة التخلُّف الذي يجتاح حياة المسلم؛ مشيرًا إلى أن عملية الرقابة الذاتية في حياتنا المعاصرة بحاجة إلى إثراء مفرداتها كي تتناول بعض الفروض الحضارية، مؤكدًا أن كل هذه القيم المعاصرة لها أصول ثابتة في القرآن والسنة، ويمكن من خلال التربية والتنمية البشرية أن نجعل المسلم يشعر بحلاوة الالتزام من خلال القيام بهذه الأعمال التي تقتضيها طبيعة العصر. واختتم القحطاني مداخلته بالتأكيد على ضرورة ألا نعزل معالجة القضايا الأخلاقية عن معالجة مشكلات الحياة الأخرى, مما يدعو إلى تكريس الجهد لعلاج المشكلات من الأعماق من خلال تنمية الرقابة الذاتية لدى العنصر البشري، والذي سيكون له الأثر الكبير على فاعلية أدائه.