شهر رمضان المبارك يأتي على الناس فيحدث انقلاباً كبيراً إلى الأفضل في سلوكياتهم وأخلاقهم، ويظهر هذا التغيير الإيجابي في تعاملهم مع بعضهم بعض، ويحدث ذلك بصورة واضحة وجلية على عامة الناس ممن استظل بظلال بركات هذا الشهر وغمره بروح الإيمان، واستجاب للامتثال بالأمر الإلهي للقيام بواجب الصيام، وهذا التغيير الإيجابي يلحظه الناس جلياً في بداية الشهر، بل في أول يوم يكون فيه الصيام، مع إن الإنسان نفسه قد لا يدرك ذلك التغيير على حالته الشخصية، مع أنه يلحظه على الآخرين، ومنشأ هذا الحال يكون بسبب أن الإنسان يجد شعوراً داخلياً يوجهه إلى قيم ومبادئ من الواجب عليه القيام بها والعمل بموجبها، فهو يعتقد أنه يقوم بما يمليه عليه واجب الصيام من الارتقاء بسلوكه وأخلاقياته، وينظر إلى الآخرين فيجد هذا التغيير الواضح في تصرفاتهم، ولا يلحظ ما حدث من تغيير على نفسه لأنه يرى أنه مدفوع إلى ذلك العمل السامي النبيل، بينما قد يسأل نفسه لماذا الناس تغيروا من حال إلى حال أفضل .! ولكنه يجد الجواب ماثلاً أمام ناظريه .أنه شهر رمضان جامعة القيم السامية والمبادئ النبيلة .! إن التغيير الذي يفرضه الصيام على الصائمين نابع من الداخل، لأن هناك وازعاً دينياً متيقظاً يملك من القوة ما يحول به دون مقارفة الأعمال السيئة ويفرض التعامل والسلوك من خلال قيم ومبادئ كبيرة تنهض مسوغاً لحدوث ذل التغيير الكبير في حياة المسلمين الصائمين .! وبقدرة الله وحكمته فإن هذا الوازع الديني يتحرك في داخل الإنسان ويتحكم في سلوكه منذ أن يبدأ في صيامه، والسبب في ذلك أن الصائم يريد المحافظة على ذلك الصيام، ولا يريد أن يخدش صيامه بأي أمر كان، فكلما يهمُّ بعمل فعل أو قول فإنه يتساءل عن مدى تأثير هذا الفعل على صحة الصيام فتأتي الإجابة سريعة، إنه لا يجتمع الصيام وهذا الفعل الخاطئ، فيرجع الصائم إلى حظيرة الإيمان فيتجنب ذلك الفعل رغبة في المحافظة على الصيام وعدم انتهاكه بذلك الفعل الخاطئ، وهذه القيمة التي تتوفر من الصيام وهي قيمة المراقبة الداخلية، فتكون كرقيب متيقظ، وحارس أمين على كل تصرفاته وسلوكه، وهذا التغيير نحو الأفضل قد لا يتأتى بمثل هذه الصورة الناصعة في شعيرة أخرى غير شعيرة رمضان .إن منبع هذه القيمة العظيمة قيمة المحاسبة والمراقبة الذاتية كان من خلال الرغبة في الحصول على قيمة أعظم وأكبر وأهم وهي قيمة الخوف من الله قيمة التقوى التي كانت سبباً وعلة وحكمة في فرض صيام رمضان . وفي الصيام تأتي قيمة أخرى من القيم العظيمة، وهي قيمة الإحسان والإخلاص في العمل، فالمسلم يتعلم في رمضان قيمة من القيم الأخلاقية والتعبدية العظمية وهي قيمة الإخلاص، فمن خلال ممارسة الصيام في رمضان يجد الإنسان أنه إما أن يكون مخلصاً لله عز وجل، فلا يقترف في السرّ أو العلن أي فعل يخدش هذه الصيام، لأنه يستطيع الأكل والشرب وعمل كثير من الأعمال التي تخل بالصيام في السر دون أن يشعر به أحد أو يراه إنسان، ولكنه يكون مع الله سبحانه وتعالى فيعبده مستشعراً عظمة الله تعالى وأنه يراه أين ما يكون وأن الصيام الحقيقي يفرض عليه إخلاص النية لله جل جلاله، وعدم اقتراف أي فعل يخل بالصيام، فيكون الإنسان في صيامه مخلصاً في هذه العبادة، ولا يشوبه في غالب الحال شائبة الرياء، لأنه يعبد الله I ويعلم أنه يراه، وهذا هو الإحسان الذي قال عنه رسول الله : " الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " والكثير من العبادات قد يشوبها الرياء فالإنسان قد يحضر للصلاة أو يزكي أو يحج رياء، ولكن الصيام لا يكون كذلك، لأن من يريد الرياء في الصيام، فإنه لن يصوم أصلاً، فقد يأكل ويشرب ويفعل أشياء في السرّ ويظهر للناس أنه صائم، ولكنه في الحقيقة لم يصم وهو نفسه يعلم ذلك، علاوة على أن مثل هذا الإنسان في غالب حاله يفضحه الله سبحانه وتعالى وذلك من خلال تصرفاته وسلوكياته بين الناس .وقيمة الإخلاص والإحسان تظهر في رمضان بصورة جليه وواضحة . وفي رمضان - جامعة للقيم والمبادئ النبيلة - تبرز قيمة من القيم العظيمة وهي قيمة البذل والسخاء والتي يتحقق بها مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام وهو مبدأ التكافل الاجتماعي والبذل والإنفاق بسخاء في رمضان، وتظهر بين الناس قيمة الإنفاق والتكافل والشعور بحقوق المسلم على المسلم بجلاء فيلحظها الإنسان تتمثل في سلوكيات كثير من الناس حتى من كان قبل رمضان شحيحاً فإنه يسعى للبذل والإحسان إلى الناس طلباً للأجر لكون الأجر والحسنات في رمضان تتضاعف، ومن ذلك الرغبة في إفطار الصائم ولهذا فإن معظم الناس وغالبيتهم تقريباً، حددوا مواعيد إخراج زكاة أموالهم في رمضان، رغبة في أن تشملهم بركات هذا الشهر وخيراته واستجابة الدعاء لهم ممن يعطونهم الزكاة أو الصدقات .وقيمة الإنفاق في رمضان سنة رسولنا الكريم فقد جاء في الحديث :"أن رسول الله كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان كان أجود من الريح المرسلة " وهناك قيمة أخرى يمكن الإشارة إليها وهي قيمة المسارعة إلى الأعمال الصالحة كالمحافظة على الصلاة وصلاة القيام في جماعة في المساجد وتلاوة القرآن الكريم، وتحري ليلة القدر بالأعمال الصالحة فمن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وكذلك أداء العمرة، فقد قال : عمرة في رمضان كحجة معي ، وهناك من القيم والمبادئ ما لا يستوعبه مثل هذه المقال . اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً . ص .ب 9299جدة 21413 فاكس 6537872 [email protected]