يبين أستاذ الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة بمؤسسة مسجد الحسن الثاني للتعليم العتيق في الدارالبيضاء يوسف حميتو في دراسته الموسومة ب"المقاصد ونقد منهج إعمال الكلي وإهمال الجزئي" أن كل الأحكام الفقهية بأدلتها التفصيلية تنتظم تحت النظرية المقصدية، وذلك باعتبار أنها حقائق جزئية، وأن استقراء تفاصيل الشريعة يؤكد أن أحكامها بُنيت على عِلَلٍ ومَرامٍ تَرجع كلها إلى الحفاظ على مصلحة الخلق ودَفْعِ المفسدة عنهم، ونقطة الانطلاق في هذا هي التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة. ويوضح أن مقاصد الشريعة هي أمر ثابت يجب اعتقاده والتسليم به، واستحضاره والالتفات إليه في عملية الاجتهاد الفقهي، وفي بيان الأحكام وتطويرها والترجيح بينها، فهي تكتسي صبغة الاجتهاد، الذي ينبغي التمييز أثناء مباشرته بين أمرين: 1- أولهما: الاجتهاد في فهم الخطاب الشرعي وتَمَثُّلِ نواهيه وأوامره من خلال الربط بين كلياته وجزئياته ودلالة نصوصه على معانيها؛ وإيرادُ "الخطاب الشرعي" هنا يَشمَلُ إلى جانب كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما تم استنباطه من القواعد العامة للشريعة مما لا نص فيه وتنزيله على الوقائع والنوازل. 2- الاجتهاد في تنزيل الأحكام التي تم التوصل إليها في المرحلة الأولى من مراحل الفهم، وذلك بتحقيق المناط في كل حادثة أو واقعة، سواء كانت هذه الوقائع مما هو معتاد ومألوف وله دليل من الشريعة من نص أو قياس وهذا هو الغالب الأعم أو كان خارجا عن المعتاد وهو النادر والذي لا بد من رده إلى الغالب. ويؤكد حميتو أن ما سبق لا يمكن تحققه إلا من خلال فهم شمولي لمناشئ الأحكام، ومن خلال الكشف عن طبيعة العلاقة بين الأحكام الشرعية الأصلية والواقع، ومن خلال ما يتيحه استجلاء مقاصد الشريعة من أصول للموازنة، وقواعد للتنسيق بين نصوص الشريعة وبين المصالح التطبيقية في واقع الناس، وذلك من أجل حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان. من هنا يؤكد حميتو في دراسته أن للمقاصد والاجتهاد في استجلائها الأثر التشريعي الخطير، لأنه أمر وسط بين الفهم الدقيق لأحكام الشريعة، وبين التنفيذ لما صدر من أحكام في حوادث ونوازل معينة، ذلك أن المقاصد الشرعية تؤثر في الفكر الاجتهادي الفقهي بالممارسة والاختلاف والتنوع ومراعاة اختلاف الأحوال. الغاية من التشريع وأشار إلى أن الغاية من تشريع المقاصد هي أن يتحقق التوافق بين قصد المكلف وبين قصد الشارع، فمن قصد نقيض ما قصده الشرع كان بذلك مخالفًا لمقتضى ما يستلزمه مبدأ الاستخلاف من طاعة وحكم بالعدل، وبذلك ينبغي على جميع الأحكام والتصرفات أن تتكيف في ضوء مقتضيات الغاية الكلية على وجه من التجانس والتكامل والتوافق. لكن الدراسة انتقدت دعاوى أقوام كثيرة اليوم ترفع عقيرتها بضرورة اعتبار المقاصد الحاكمة على الفعل الاجتهادي، وذلك بأن يكون منها الورود وإليها الصدور، لا يقدم عليها أي اعتبار آخر، وتعدوا بالرؤية المقاصدية محالها، وتجاوزوا بها الحدود التي ينبغي أن تقف عندها، والبعض منهم وإن كانوا قد سلمت منهم النية أو تحمسوا بغية الدفاع عن الشريعة، إلا أنهم وقعوا - واعين بذلك أو غافلين عنه - في ما لم يقصد الشرع إليه، شعارهم في ذلك أن المقاصد هي روح الأحكام، وهو شعار صدق لو أنه لا يصطدم بمبدأ ازدواجية التشريع الكلية والجزئية. وألمح حميتو إلى أن كثيرًا ممن يتعاطى علم المقاصد - إن جاز لنا تسميته علمًا- يتعسف في العمل بها، إلى درجة أنه لا يقيم لثنائية الكلي والجزئي وزنًا، متعللًا بكون الشريعة ما جاءت إلا لما فيه صلاح البلاد والعباد، ومن ثم فكلما اصطدم عنده الكلي والجزئي، وتزاحما في مسألة بعينها كانت التضحية بالجزئي حتمية لصالح الكلي حفظًا لمصالح الخلق وصيانة لمقاصد الشريعة بزعمهم. الجهل بطبيعة الشريعة وكما يعزو حميتو هذه النتيجة التي توصل لها البعض إلى المبالغة في إعمال المقاصد وبسط سلطانها على العملية التشريعية برمتها، أضاف أن من أسبابها الجهل بطبيعة الشريعة الإسلامية نفسها، إذا لا يكفي أن يكون الإنسان عالمًا بموارد الأحكام وموضوعاتها، كما لا يكفي أن يكون واقفًا على مقاصدها، بل إن بين هذا وذاك أمرًا آخر، وهو التبصر بمواقع التطبيق والتنزيل ومآلاته. فإذا كان الكلي هو المراتب الثلاثة للمقاصد، وأعني بذلك الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وإذا كان الجزئي هي الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس فإن تصور المبالغين في العمل بالمقاصد والأخذ بالكليات يغيب عنه التوفيق، فإنهم وبدعوى أن واقع العصر يقتضي أن تتوافق الفتاوى مع العصر وما هو ماثل فيه من مستجدات ومستحدثات، فإنهم لا يتورعون أن يقدموا الكلي بدون اعتبار لجزئيات المسائل وأحكامها، وبدون أن يمنحوا أنفسهم وقتًا للتأمل في كون ما يجنحون إليه هدم لأصول الشريعة وقواعدها، ودون أن يتمعنوا في كون ما يهدفون إليه تسعفهم فيه مقاصد الشارع الحقيقية، فلا يهتمون بالتحقق من كون القصد الذي زعموا سعيهم الحفاظ عليه هو مقصد شرعي حقيقي، كما قرر ذلك الطاهر ابن عاشور. معادلة من طرفين حميتو تفهم في دراسته أن يكون الهدف هو ثبوت المقصد الشرعي وثباته، لكنه استنكر كيفية استقامة هذه المعادلة حين يلغى أحد أطرافها لحساب الطرف الآخر؟ وقصد بذلك تقديم الكلي على الجزئي تقديمًا لا ضابط له، إنها معادلة ينفي الشاطبي رحمه الله احتمال تحققها بهذه الصورة كما يقول حميتو، بل يؤكد حميتو في دراسته أن الشاطبي شدد على اعتبارهما معًا في كل مسألة، فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفاظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي. التعسف في تفسير المقاصد ويصف أستاذ الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة بمؤسسة مسجد الحسن الثاني للتعليم العتيق هذا الطرح ب "التعسف في تفسير المقاصد"، والزلل في تصورها والذي ينبئ عن فساد في الذوق، وعطب في آلية التلقي، وخلل في منهج الإدراك والفهم، فهو هوس لا مبرر له إطلاقا ولا يستقيم إلا بضوابطه، فالحرص على المقاصد محمود، لكن الخروج به عن حد الاعتدال أمر مذموم، ويؤكد حميتو أن فقه التنزيل ليس فقط هو تحري المقصد، وإنما هو تحري ما يؤول إليه تنزيل المقصد من استقامة في التطبيق، أو جور على الأدلة الجزئية أو الأحكام الشرعية.