يقينًا لو أنَّ الملتاعين المنتحبين الفضائيين على أطفالِ مصرَ صادقون، لنجحَ سعيهم ولم يضلْ! يقينًا لو أنَّهم كانوا يبكون بحقٍ مع الشعب، لضربنا بدموعهم وإخلاصهم للوطنِ المثل! يقينًا لو أنَّ أغنياءَ التضليل تبرّعوا بأجرِ حلقةٍ أو ساعةٍ لحكومتنا الضائعة المضياعة؛ لصدّقهم قلبنا المفطورُ المبهوت على كلِّ طفلٍ في أسيوط. لقد فاتهم في غمرةِ الكذبِ والتمثيل، في سرادقِ العزاءِ أنَّ صوتهم ينعقُ كالغراب، متمنيًا لمصر في هذه اللحظة الخراب!. لقد نسوا أنْ يسألوا أنفسهم قبل الدخولِ في مهاتراتهم الليلية: مَن ذا الذي أحالَ مصرَ إلى مليون قتيلٍ، وغريقٍ، وضحيةٍ؟! بموازاة سرادقات الكذبِ والادّعاءِ، وباتّساقٍ واضحٍ ظهرت موضةٌ، أو موجةٌ جديدةٌ تحذّر البسطاءَ من أن يقولوا "إنه إرثُ نظامِ مبارك".. يشتركُ فيها، ويغذّيها غوغاءُ الفضائيات، ونفرٌ من المحلّلين والشعراء!. كان الشعبُ يبكي على فلذاتِ كبدهِ الصغار، حين كان المتاجرون بآلام المكلومين، يستنفرون بعضهم في الفضائياتِ، ليس لمشاركةِ الشعبِ البكاءَ، وإنّما لممارسةِ الإفكِ في سرادقِ العزاء!. شاهدتُ أحدَهم يصرخُ وينتحبُ على الخمسين طفلاً، وهو يحرصُ وسطَ البكاءِ على التذكيرِ بأنَّ "مصر كبيرة قوي عليك ياريس"! كان يمنّي نفسه، وضيوفه بعودةِ ذاك الزمن!. لقد نسي -هو وضيوفه- أن ثلاثين عامًا كانت كافية لملء مفاصل الوطن بالعفنِ في الأرضِ، والزرعِ، والبدنِ!. لقد نسوا -وهم ينتحبون على كرامةِ الإنسانِ- أنَّ كرامةَ المصريِّ أُهدرت من زمنٍ، وأنَّهم كانوا يتلذذون بالعفنِ، وأنَّهم دعاةُ ورعاةُ الماضي الكريه، الذي داسَ على الرقاب، وأسدلَ الستارَ على نهارِ أجملِ وطنٍ!. قال أحدُهم: لماذا نحاكمُ مبارك على قتلِ المتظاهرين، ولا نحاكمُ مرسي على قتلِ الأطفالِ الخمسين؟! وقالت إحداهن: "مش ممكن بخطابٍ واحدٍ ولا اثنين، أشاد بهما العالم يكون رئيس"! وقال ثالث -ببجاحة يُحسد عليها-: "الحوادث كانت في عصر مبارك جريمة، ودلوقتي بقت قضاء وقدر"!. مضت الليلةُ الأولى والثانيةُ في سرادقِ العزاءِ الحقيقيِّ الذي أقامه الشعبُ في البيوت، على صرخاتِ المستنفرين، المتحدّثين عن الخرابِ والفشلِ، وكأنَّ نظامَ مبارك ترك الطرقَ جنةً، وزرعها تمر حنة، وصحةَ الناسِ بلا سرطان، ولا وباء، ورواتبهم عالية، وفي السماء، ومعاشاتهم مضمونة، وكرامتهم مصونة!. قال قائل: إن وجهَ رئيسِ الوزراء "نحس"؛ متحسّرًا على وجه نظيف! وقال آخر: إنه يرفض أيام مرسي؛ متحسّرًا على أيامِ صفوت الشريف!. كلُّ ذلك، وأكثر منه حدثَ في سرادقِ العزاء.. فلمّا انصرفَ المقرئون بحقٍ، والمتحسّرون بحقٍ، والملتاعون بحقٍ، راحَ الأفّاقون الدجّالون، يكتبون صيغةَ نعيِ مصر التي سقطت، والدولة التي انهارت!. بقي أن أقولَ للرئيس: اخرج من دائرة الأحزان، واجمع حولك كلَّ الذين وقفوا يساندونك في حزيران، من غير الإخوان!. لا تجعل الدستور "بطحةً"، بل تاجًا على رأسك.. لا تجعله صداعًا جديدًا في رأس شعبك. وللمشتاقين للخراب أقول: إن مصرَ تمتلكُ كنوزًا مكتشفةً من جبل الصبر.. تمتلكُ كذلك قلبًا روّضَ أحزانه، وشعبًا امتلك زمامَ الأمر!.