بوفاة الشيخ أحمد يوسف زينل تُطوى صفحة قرن من الزمان، تشكلت فيه أسس وملامح بواكير التعليم الحديث بمدينة جدة المحروسة، ذلك أن بوابة الحرمين لم تعرف التعليم النظامي إلا مع تأسيس المدرسة الرُّشدية مطلع القرن الرابع عشر الهجري ونهاية القرن الثامن عشر الميلادي، التي اعتمدت التدريس باللغة التركية، بهدف تكوين جيل من الموظفين وتنفيذًا لخطة عليا تقضي بتتريك العرب. لكن إيمان أهالي جدة بعروبتهم قد منعهم من الالتحاق بتلك المدرسة، مع حاجتهم للتعليم الحديث، وآثروا الانخراط في حلقات العلم التقليدية حتى كان بلوغ الفرج المعرفي على يد الحاج محمد علي زينل، الذي أسس بمعاونة رفيق دربه الشيخ عبدالرؤوف جمجوم مدارس الفلاح سنة 1323ه - 1905م، وابتهج لأجل ولادتها كل أهالي المحروسة، فقيرهم وغنيهم، تاجرهم وعاملهم، شيخهم وشابهم، بل وحتى جميع عوائلهم من النساء والغلمان ومن يتبعهم، وكان أن عمل كل أولئك على أن تستمر الفلاح منارة علمية تهتدي بها الأذهان والنفوس، حتى وهم في أحلك الظروف التجارية العصيبة إبان الحرب العالمية الثانية، حيث وضحت خلالها مساهماتهم المادية والمعنوية، التي كان لها أبلغ الأثر في استمرار الفلاح حتى يومنا هذا وإلى غد إن شاء الله، برعاية مجلس أمناء المدارس الذي كان المتوفى رئيسا له حتى آخر لحظة في حياته يرحمه الله. لقد مثلت الفلاح بكوادرها المعرفية درة تاج الحركة العلمية بالمدينة، وساهم أبناؤها في تأسيس العديد من المدارس النظامية الحديثة، وفي قيادة دفة الإدارة التعليمية بعد ذلك، بل وكان لهم الدور الريادي في تأسيس جامعة الملك عبدالعزيز سنة 1385ه - 1965م وهي أول جامعة أهلية بالمملكة العربية السعودية، التي انبثقت شرارة فكرتها من مقال بجريدة المدينة للسيد محمد علي حافظ، لتحظى الفكرة وحملة جريدة المدينة، باستجابة واسعة النطاق من مختلف أبناء مدينة جدة، الذين لم يتوقفوا عند حدود المسميات، ولم ترهقهم التفاصيل الشيطانية، فأكدوا للمرة الثانية عمق وعيهم بأهمية العمل المؤسسي، وساهموا بأعز ما يملكون من أجل ولادة صرحهم المعرفي العالي، وكان على رأس أولئك الملك فيصل وأسرته، والشيخ محمد باخشب، والشيخ عبدالله السليمان، والشيخ محمد سرور الصبان، وغيرهم. وهكذا كان دأب المدينة حتى بلغت اليوم ما بلغته من رقي معرفي وتطور تعليمي فريد، ليقف الرائي على مشهد معرفي بانورامي، ابتدأ نبراسه بمعتمدية المعارف بجدة، بلوغا إلى حقبة الإدارة العامة للتربية والتعليم بالمحافظة (بنين وبنات)، التي تضم المئات من المدارس الحكومية والأهلية والعالمية، ويتولى دفة قيادتها اليوم بكل مهارة واقتدار الأستاذ عبدالله الثقفي. [email protected]