علّمتني أمي أن الحبَّ في أجمل صوره، وأصدق معانيه هو العطاء بلا حدود، ولا شروط، ولا قيود، ولا منّة. الحبُّ ليس كلماتٍ تُقال، أو تُسطّر في كتب، أو أشعارًا يتغنّى بها أهل الفن والطرب، أو ألحانًا تُعزف، بل هو أفعال تُسجّل وتحفر بنقش لا يزول في سجلات الزمان، وتثمر مشاعر صادقة، ويملأ أجواء المكان الألفة والمحبة والمودة والحنان والدفء والإحساس بالأمان، بل البركة التي لا يعرفها حقًّا إلاّ مَن عايشها، حيث يجعل الله القليل كثيرًا في أيدي أناس لا تعرف إلاّ الله ملجأ ومبتغى، والغاية هي رضاه. كانت تقول لي دومًا: المحبة لها برهان ودليل بفعل لا بقول. تعلّمت من الغالية.. أنَّ الإنسانَ كلّما ترفّعَ عن الدنيا وأهلها عاش عزيزًا كريمًا؛ لأنَّ اللهَ يرفعه ويزيده عزةً وكرامةً لإيمانه بأن له ربًا خلقه فكفاه، ولن ينساه. تعلّمتُ منكِ يا أغلى الناس.. بأنَّ العلمَ الحقيقيَّ ليس في الكتبِ وحدها، أو على مدرجاتِ الجامعات، ولا بالشهادات العليا، العلم هو نور الله الذي يعطيه ويهبه لمن يشاء من عباده، إن هم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. قد تكون هذه كلمات مَن يقرأها يعتقد أنها تسطير لكلام تقليدي، ولكنني أمام تجربة بشرية حقيقية سأسطرها هنا، فما رأيته بعيني أثار استغرابي وعجب غيري حينما شاهدوا لوحتين في غرفة أمي -رحمها الله- باللغة الإنجليزية، وهي لا تتقنها، ولا تعرف مفرداتها، وضعتها أمامها على الجدار في نهاية شهر رمضان وكأنها تريدها رسالة لنا، وسألتها أتعرفين يا أماه معناها؟ فأجابت بالنفي، وقالت يا ابنتي أعجبتني ألوانها وزخارفها فاشتريتها وعلقتها. وإذ بالأولى في الترتيب تمثل رسالة حقيقية عن الأمهات تقول ترجمتها إلى العربية بأن الأمهات هن هبة الله من الجنة. والثانية تتحدّث عن الأصدقاء القدامى في حياة الإنسان، وأنهم يبقون معه طوال العمر، أو أنك تحتاج لزمن طويل لتكوّن صداقات حقيقية. حينها تأكدت أن العلم هبة ونور من الله، فتح الله على أمي التي لم تتعلّم في مدارس الدنيا ليهبها الله العلم بالبصيرة، ولتترك لنا من بعدها أثرًا طيبًا مباركًا فيه. رأيت يا أمي معنى الصداقة الحقيقية من صديقات لك هن كالأخوات، استمرت بينكن أجمل وأروع العلاقات الإنسانية على مدار أربعين عامًا، ووالله ما وجدت أجمل من هذه المشاعر وأصدقها في حياتي. هذا غيض من فيض ممّا علمتني أمي الحبيبة -رحمها الله- رحم الله أمي وكل أمهات المسلمين والمسلمات، وأسكنهن فسيح جناته. هذا العيد ليس ككل الأعياد، أنت هناك يا أمي في دار هي خير من دارنا، وصحبة هي خير من صحبتنا بإذن الله، فلتهنئي -طيب الله ثراك- أبناؤك وبناتك يترحّمون عليك ليل نهار، سائلين الله لك الفردوس الأعلى، وأن يجمعهم الله بك في مستقر رحمته. كل عام وأحبة أمي بخير، كل عام والمسلمون والمسلمات في كل أنحاء العالم بخير، وتقبل الله من الحجاج مناسكهم، وحج مبرور وسعي مشكور. [email protected]