كثيرا ما يختلط الخيال بالحقائق في المسعى، فيبدو الناس هناك أحيانًا وقد لفهم صمت عميق... وأحيانًا تسمع أصوات بكاء متقطع وبجانب كون الكعبة بموقعها بين الجبال والتلال المهيبة تشبه زهرة زنبقة الماء منشقة عن برعمها، فهي بمثابة فانوس سحري يحمل سر الوجود، ومسقط سدرة المنتهى، أو هي بلورة من عصارة العوالم التي وراء السماوات. وعندما يطوف الإنسان حول هذا الفانوس المحاط بالألغاز، يحس بأمور خفية بسعة الدنيا الدائرة، ويخيل إليه أنه ينظر من خلال موشور مرتبط بسدرة المنتهي إلى عوالم فيما وراء السماوات. أجل!.. فكل من لجأ إلى حرمها، يكتسب أعماقا في روحه ومشاعره وفكره. فعندما يفكر بوجوده وبالكعبة، ويستمر في التفكير في العلاقة بين هذين العنصرين اللذين هما مطمح النظر الإلهي، تنفتح أبواب سرية تنقلهم إلى عوالم سرية لم يكن لهم عهد بها من قبل. ولا شك أن مثل هذا الشعور والحدس، ومثل هذا المعنى والروح لا يحصل ولا يظهر إلا من اتحاد إيمان صحيح وقوي مع عيش حياة إسلامية كاملة، مع إخلاص ويقين تامين، وإلا لم يكن للقوالب المجردة مضمون حقيقي. بفضل هذا الغنى وهذا العمق الموجودين في الكعبة، يبدو كل شيء عندما يصطبغ بصبغة الحج وبشعوره فوق قيمته عن الأوقات الاعتيادية، وبمهابة أكثر وألوان أجمل. عند ذلك يدع الإنسان نفسه لهذا السحر ليأخذه ويرتفع به ضمن حلزون من النور ليصعد به ويرتفع ليصل إلى معبوده. وصلاة الطواف التي يؤديها صاحب هذا الروح الواصل إلى مثل هذه الذروة تكون مثل سجدة الشكر، ومن يشرب من ماء زمزم يكون كأنه يشرب من كوثر الجنة أو يعب من شراب الوصال. إنْ قُمْنا بتشبيه الطواف حول الكعبة حسب التعبير الصوفي ب"السير في الله" الذي يعد في الأكثر سياحة حول شعور مبارك ومحاولة لزيادة العمق النفسي، فإن الذهاب والإياب في مواضع السعي يمكن أن نفسره بمعاني "السير إلى الله" و"السير من الله" الذي هو عنوان العروج من الخلق إلى الحق تعالى، ومن الحق إلى الخلق. أجل!.. ففي السعي بين الصفا والمروة يعيش الإنسان طوفان هذه المشاعر. يعيش الإنسان في أثناء "السعي" شعور التضرع والطلب والدعاء والاستمداد، ويعيش شعر وموسيقى الوصال وداء الوصال. فكأنه لا يفتر يطارد شيئا مهما. ويستمر السعي حتى يظهر ما يسعى إليه. وكل ما يظهر من أثر أو أمارة في هذا السعي يضاعف انفعال الإنسان ويثير مشاعره حتى تنطق الصدور بأمثال ما قال الشاعر: انظر إلى حال هذا المسكين... أصبح عبدًا لشَعرة من شعر الحبيبة... كلما غمس يده في شهد الحب... ظمئ... فطلب الماء... يتمتم بهذا وهو يسعى هنا كطوافة حول الكعبة. وفي مقابل محاولته عند الطواف حول الكعبة النزول إلى أعماق نفسه، نراه في السعي بين الصفا والمروة يسعى على خط مستقيم وقد دهمه شعور نبوي بالعيش من أجل الآخرين؛ بالضحك من أجلهم وبالبكاء من أجلهم، بل حتى بالموت من أجلهم. تراه لا يقر له قرار، ولكن لا يفلت الحساب من يده. تراه قلقا، ولكن دون أن يتخلى عن الأمل. وتحت الأضواء الذهبية للسماء، وفي الساعات الزرقاء لموسم الحج تراه يتلوى من حسرة داء وِصال جديد، ومن عدم عثوره تماما على ما يبحث عنه. فتراه يذهب ويجيء... يهَرول أو يمشي الهوينا... يصعد تلا وينزل من تل... يلفه التردد والاضطراب. ينغمس أحيانًا في شلال نهر الناس المهرولين في المسعى ليعبر عن أحاسيسه ضمن كورس أو فرقة جماعية، وأحيانًا يكون في حالة روحية يخيل إليه معها أنه لا يرى شيئا ولا يرى أحدا وأنه يسعى ويطوف منفردا، يبدو أمامه شبح السيدة هاجر عليها السلام... تراه يترنم وهو يرتشف من كأس قلبه: اطلب أيها الولهان الحبيبة التي أهدابها، مثل الأسنة لتطفئ لوعة الفراق... أنا ظامئ، فابحث لي عن ماء في هذه الصحراء، خوف جهنم قد جثم على قلبي وأحرقه، كل أملي أن يرش غيث إحسانك على قلبي الماء... بهذه الكلمات ينتظر رحمة تنزل عليه من السماء لتطفئ نار قلبه. وإلى جانب ناره التي تلهب روحه وتحرقه يتلوى من حسرة ومن ألم الانتظار الذي لا ينتهي. أحيانًا يهبّ في المسعى نسيم بارد من وراء أفق هذا العالم، ولكن هناك في الأغلب حزن يلفه الشوق، أو شوق يلفه الحزن، مع معاناة عشق قد صبغه الرجاء والأمل. كثيرا ما يختلط الخيال بالحقائق في المسعى، فيبدو الناس هناك أحيانًا وقد لفهم صمت عميق... وأحيانًا تسمع أصوات بكاء متقطع... أحيانًا كأنهم يساقون إلى الميزان وأحيانًا كأنهم يركضون نحو الكوثر، فهم بين خوف ورجاء وبين خشية وفرحة... يستمرون في الذهاب والإياب وفي الصعود والنزول... الدقائق والساعات هناك مع كونها خفرة وحَيِيَّة فهي كثيرة الطلب، فهي تطلب الاهتمام على الدوام. وإلا فستزول وتنمحي دون أن تترك أي أثر. كلما اقتربت الأيام من العيد تلوّن المطاف والزمزم والمسعى بشعور خفي من الحسرة والغربة إلى اللون اللازوردي، وتبدأ الكعبة بإنزال ستارة نوافذها شيئا فشيئا. ومثل كل الحوادث التي تدل على حقيقة الفناء وتشير إليها يفهم الإنسان أنه متى آن وقت الرحيل فعليه أن يرحل، وأنه لابد أن يأتي يوم سيرحل فيه عن هذه الدنيا، وعند ذلك ينزوي في عالمه الخاص ويعيش نوعا من الانزواء الروحي. في "عرفات" تسمع صرير أبواب السماء ولكن لم ينته بعد كل شيء... فهناك طريق طويل، ورحلة طويلة تنتظر هؤلاء السائرين إلى الله تعالى. فهناك "مِنَى" بلغزها الغامض، وبسحرها الذي يدير الرؤوس منتصبة على الطريق تنتظرهم... وهناك "عرفات" التي كأنك تسمع فيها صرير أبواب السماء ترقبهم... وهناك "المزدلفة" التي لن تدَعهم قبل أن تذيقهم مأدبة روحية... وبعد خطوات هناك المكان الذي يُظهِرون فيه كامل تسليم أنفسهم لله ويرجمون عقولهم المعاشية الدنيوية، ويضحون عن أنفسهم ويعيشون في عوالم أحاسيسهم عيد البراءة والتطهر. ثم يتوجهون إلى الكعبة وإلى كعبة قلوبهم... يتوجهون من الله إلى الله، وينهون عروجهم ونزولهم، وينثرون ابتساماتهم على حظوظهم بإلهام من تداعيات "الفناء في الله" و"البقاء بالله". *مفكر تركي.