هنا في مكةالمكرمة يصبح للحياة معنى آخر، وطعم آخر، ونكهة أخرى، هنا تتقارب مسافات الكون، وتتآلف أجزاؤه المتناثرة المتباعدة، لتصبح يدين طاهرتين تتشابك أصبعهما أمام الكعبة المشرفة، ثم تنفكَّان لتلامسا براحتيهما طهارة الحجر الأسود، ونقاء أستار هذه الكعبة، ورونق مقام إبراهيم، ولترتفعا بعد ذلك إلى السماء، تستمطران رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته وتوفيقه وهداه ورزقه الطيب الحلال. هنا في بيت الله الحرام تتحوَّل الدنيا إلى خيمةٍ آمنة مطمئنة، يلتقي فيها الناس على اختلاف ألوانهم، وأوطانهم، وألسنتهم لقاء المحبة والصفاء، لقاء الذكر والدعاء، لقاء الوحدة التي لا نظير لها، وحدة الطواف حول الكعبة سبعة أشواط في اتجاه واحد، ووحدة السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط في اتجاه واحد، ولقاء الصلوات الخمس في اتجاه واحد، ولقاء التعبُّد والتذلُّل لإلهٍ واحد. هنا في مكةالمكرمة تغتسل الروح من أدران الحياة وشوائبها، تخرج من سجن رغائبها، ومن حقارة مطالبها، ومن تفرَّق أهوائها ومذاهبها، تغتسل الروح من همومها، وغمومها، فتصفو بعد كدر، وتسعد بعد شقاء، وتطمئن بعد خوف، وترتوي بعد ظمأ، وتشبع بعد جوع، وتضاء جنباتُها بالشموع، وتشعر ببرد الراحة واليقين بين الضلوع، وترفع شمس هدوئها راية السُّطوع. هنا في رحاب البيت الحرام يجلس التاريخ على كرسيِّه المهيب يحدِّث المتأمِّلين، المقبلين بقلوبهم المؤمنة، بأعظم الأخبار وأجلِّها وأكثرها إضاءةً وإثارةً وصدقاً، يجلس التاريخ على كرسيِّه المهيب في كل مكان تراه عين ناظر من ساحات هذا البيت الحرام، يتحدثُ عن سيرة خير الأنام، محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، ويعود إلى ما قبل ذلك عودة المذكِّر المستذكر، فيسرد أخبار أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حينما ترك ابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام وأمَّه هاجر رضي الله عنها بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، ويروي ما تلا ذلك من أحداث وعجائب تدلُّ على بركة هذا المكان الطاهر، وعلى فضله ومكانته عند ربِّ العالمين، ثم يرجع التاريخ إلى سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام شارحاً مفصِّلاً موضِّحاً. هنا في مكةالمكرمة تغتسل الروح من أدران الحياة الدنيا التي تخدع الناس ببريقٍ سرابيٍّ خادع، ولمعانٍ خُلَّبي كاذب، فإذا بغبش شهوات الحياة وشبهاتها ينقشع عن هذه الروح، فترى بعين بصيرتها حقائق الأشياء، وتتَّصل اتصالاً وثيقاً بخالق الأرض والسماء، وتجد في خيمة الهدوء ما يبعدها عن الضوضاء. نعم هنا تغتسل أرواح المعتمرين الصادقين، المخلصين لرب العالمين المتجهين إلى هذه الرحاب الطاهرة للعبادة والذكر والدعاء، بعيداً عن المظاهر الكاذبة والنفاق والرياء، تغتسل في مكة الخير أرواحُهم فيحلِّقون بأجنحة الرِّضا واليقين، في آفاق رحبةٍ من الرجاء في رحمة رب العالمين. مكةالمكرمة تنادي كلَّ مهموم مغموم إلى رحلةٍ روحيةٍ خالصةٍ نقيَّة صافية، سليمةٍ من البدع والخرافات، والأهواء والمخالفات، والتنطُّع والمبالغات، تناديهم ليغسلوا عن أرواحهم أدرانها وآلامها وأحزانها، وتقول لمن تحول بينهم وبين رحيلهم إلى مكة صعوبات الحياة، ارحلوا إليَّ بقلوبكم ومشاعركم، واتجهوا إلى قبلتكم في كل يومٍ خمس مرات، اتجاه الإخلاص واليقين والإخبات، محققين الخشوع في صلواتكم، فلن تعدموا أن تغتسل بذلك أرواحكم من همومكم وأتراحكم. هنا في مكة الخير وفي رحاب البيت الحرام المبارك تتحوَّل الحياةُ إلى معنى روحيّ عميق للحياة، يجعل النفوس تشعر بطعم آخر للحياة، فيا طوبى لمن سلك الطريق، إلى هذا المعنى الروحي العميق. إشارة: يا مكة الخير هذي بعض أشجاني ممزوجةً بترانيمي وألحاني