في التُّراث الأدبي كنوز وذخائر لا حصر لها في مجال الكلمة الهادفة، والحكمة البليغة، والوصيَّة المؤثِّرة، والرؤية السديدة التي تأخذ بمجامع القلوب، وتؤثِّر في النُّفوس. ومن فنون النَّثر الفنِّي أدب الوصايا، فالوصيَّة كلمات موجزة تحمل معاني كثيرة، وترسم لقارئها آفاقاً جديدة ومعالم رحبة لم يكن يفطن إليها، فتنبه الغافل، وترشد الحائر إلى ما يحقِّق له الفائدة المرجوة، مع بلاغة جميلة، وعبارات أخَّاذة، صاغها صاحبها بحذق واقتدار. ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه أنَّ أحد الحكماء أوصى بنيه، فقال: "الأدب أكرم الجواهر طبيعة، وأنفسها قيمة، يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرَّغائب الجليلة، ويُعِزُّ بلا عشيرة، ويُكثِّر الأنصار لغير بلا رزيَّة، فألبسوه حُلَّةً، وتزيَّنوه حِلْيَةً، يؤنسكم في الوحشة، ويجمع لكم القلوب المختلفة". وأوصى أحدهم ابنه فقال: "يا بُنيَّ: عليك بالتَّرحيب والبشر، وإيَّاك والتَّقطيب والكبر؛ فإنَّ الأحرار أحبُّ إليهم أن يُلْقَوا بما يُحبُّوا ويُحرموا، من أن يُلقوا بما يكرهون ويُعطوا. ألم تسمع قول حاتم الطَّائي: أُضاحِكُ ضَيفي قَبلَ إِنزالِ رَحلهُ وَيُخصِبُ عِندِي، والمحِلُّ جَديبُ وَما الخِصبُ لِلأَضيافِ أَن يُكثِرَ القِرى وَلَكِنَّما وَجهُ الكَريمِ خَصيبُ يا بُنيَّ: ألقَ صديقك وعدوَّك بوجه الرِّضى وكفِّ الأذى من غير ذلَّةٍ لهم ولا هيبةٍ منهم، وكن في الأُمور متوسطاً، فإنَّ خير الأمور أوساطها. وكن للإخوان في الحضر، وللرُّفقاء في السَّفر، قال الشَّاعر: وكُنْتُ إِذا صَحبْتُ رَجَالَ قَومِ صَحِبْتُهُمُ ونيَّتي الوَفَاءُ فأُحْسِنُ حين يُحْسِنُ مُحْسِنُوهُم واجْتَنِبُ الإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاؤوا وفي تراثنا الشِّعري تتربَّع قصائد "اللاميَّات" ميدان الوصايا، حيث عمد قائلوها إلى الفكرة الهادفة والنَّصيحة المؤثِّرة، ومن تلك اللَّاميَّات لاميَّة شرف الدين ابن المُقْرِي التي أفصح فيها عن كثير من تجاربه في الحياة، ووصاياه التي نبَّه إليها، ومن ذلك جانب الصَّداقة ومعاشرة الإخوان، حيث نبَّه إلى ما يحتاجه المرء فيها من السَّماحة ولين الجانب، والإغضاء عن الزَّلات، يقول في لاميَّته: والْقَ الأحبَّةَ والإِخوانَ إن قَطَعُوا حَبْلَ الودادِ بحبلٍ منك متَّصلِ فاعجزُ الناس من قد ضَاع من يده صديقُ وُدٍّ فلم يردده بالحِيَلِ اسْتَصْفِ خِلَّك واستخلصه أحسن من تبديل خِلٍّ، وكيف الأمن بالبَدَلِ؟ وكُنْ مع الخَلْقِ ما كانوا لخالقِهِم واحذر معاشرةِ الأوغادِ والسَّفَلِ وهذا اللون من القصائد يحمل تجارب عميقة ورؤى سديدة عبر خلالها الشُّعراء عن مكنون صدورهم بلغة أدبيَّة قريبة إلى النَّفس.