من عيون الشِّعر العربي التي اهتمَّ بها الأُدباء والنُّقاد قديماً وحديثاً ما يتَّصل بشعر الحكمة الذي يأخذ طابع الوصيَّة ، حيث يوجهها الشَّاعر إلى مجتمعه موجِّهاً إياهم إلى رؤيته التي يرى أنها تقدِّم لهم الفائدة والنَّصيحة والتَّوجيه إلى معالي الأمور ، ومن الشُّعراء الذين عُرفوا بهذا الاتِّجاه علَّامة اليمن وإمامها وشاعرها في القرن التاسع الهجري شرف الدِّين ابن المُقْرِي صاحب الكتاب المشهور: "عنوان الشرف الوافي في الفقه والنَّحو والتَّاريخ والعروض والقوافي" الذي اشتمل على خمسة فنون نصَّ عليها في العنوان . ومن أشهر قصائده القصيدة اللاميَّة التي أفصح فيها عن كثير من تجاربه التي خاضها ، ووصاياه التي نبَّه إليها ، وحض على أن يتمسَّك بها المرء في دروب الحياة كي يُجانب كثيراً من الزلَّات والعثرات التي قد تعترضه ، يقول في مطلعها : زيادةُ القول تحكي النقص في العمل ومنطقُ المرء قد يهديه للزللِ إن اللسانَ صغيرٌ جرمه وله جُرْمٌ عظيم كما قد قيل في المثلِ فكم ندمت على ما كنت قلت به وما ندمت على ما لم أكن أقلِ وأضيقُ الأمر أمرٌ لم تجد معه فتى يعينك أو يهديك للسبلِ عقل الفتى ليس يغني عن مشاورة كعفة الخود لا تغني عن الرجلِ إن المشاور إما صائب غرضا أو مخطئ غير منسوب إلى الخطلِ لا تحقرِ الرأيَ يأتيك الحقير به فالنَّحل وهو ذبابٌ طائرُ العسلِ فالشَّاعر في هذه الأبيات يشير إلى عدة أمور ، منها أهمية الكلمة التي يتلفظ بها المرء فهي إما تكون له وإما تكون عليه ، ولربَّ كلمة جنت على صاحبها ، لذا فاللسان صغير جرمه ، ولكنه قد يجرّ على صاحبه المتاعب ، ومن هنا نبه الشاعر على قيمة الكلمة وأهميتها ، وأنه ينبغي على المرء أن يزن كلامه قبل أن يتفوه به . وينتقل شاعرنا بعد ذلك إلى جانب في غاية الأهمية ألا وهو تدريب النفس على احتمال ما قد يصادفها من الأقدار والفواجع وما قد يحل بساحتها من الأحداث المؤلمة التي لا بد للمرء أن يتقبلها برضا وصبر ، واحتساب ، وإيمان بأقدار الله تعالى ، يقول ابن المقري : لا تجزعنَّ لخطب ما به حِيَلٌ تُغني ، وإلا فلا تعجز عن الحيلِ لا شيء أولى بصبر المرء من قَدَرٍ لا بد منه وخطبٍ غير مُنتقلِ لا تجزعنَّ على ما فات حيث مضى ولا على فوتِ أمرٍ حيث لم تنلِ فليس تُغني الفتى في الأمر عُدَّتُهُ إذا تقضَّت عليه مدةُ الأجلِ وخير ما جربته النفس ما اتضعت عن الوقوع به في العجز والوكلِ فاصبر لواحدة تأمن عواقبها فربما ضقت ذرعا منه في النزلِ ومن الموضوعات التي لم يهملها ابن المقري في لاميته موضوع الأُخوَّة والصَّداقة، وما يحتاجه المرء فيها من السَّماحة ولين الجانب ، والإغضاء عن الزلات والعثرات، والحرص على الأُخوَّة والأحبَّة وإن قطعوا صلاتهم أو قصَّروا فيها ، إذ لا بدَّ أن يظلَّ حبل الود متصلاً ، يقول في هذا الجانب : والْقَ الأحبَّة والإِخوان إن قَطَعُوا حَبْلَ الودادِ بحبلٍ منك متَّصلِ فاعجزُ الناس من قد ضَاع من يده صديقُ وُدٍّ فلم يردده بالحِيَلِ اسْتَصْفِ خِلَّك واستخلصه أحسن من تبديل خِلٍّ وكيف الأمن بالبَدَلِ واحمل ثلاث خصال من مطالبه تحفظه فيها ،ودع ما شئته وقلِ ظُلم الدلال ، وظُلم الغيظ فاعفهما وظُلم هفوته ، واقسط ولا تملِ وكُنْ مع الخَلْقِ ما كانوا لخالقهم واحذر معاشرة الأوغاد والسَّفَلِ وهكذا عبَّر الشَّاعر في قصيدته اللاميَّة عما يجيش في نفسه مما استفاده من الدُّروس والعبر من خلال تجاربه التي خاضها في الحياة وانتفع بها ، وأفصح عنها بلغة أدبية قريبة إلى النفس بل تخالج الوجدان لأول وهلة . *الأستاذ المشارك بكلِّيَّة اللُّغة العربيَّة بالجامعة الإسلاميَّة .