شئنا أم أبينا، فإن ما يحدث في مصر الآن سوف يترك علامات غائرة، على تضاريس الحياة السياسية في المنطقة برمتها، وشاء المصريون أم أبوا فإن ما يدور على أرضهم من تحولات سياسية، ستظل -من هذا المنظور- مثار اهتمام الإقليم كله على الأقل.. وبمقدار ما قد تدغدغ مشاعر المصريين، فكرة أن ما يحدث عندهم، يثير العواصف، ويحرك الرمال في الجوار، بمقدار ما ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لقلقهم، ولقلق الجوار أيضًا.. المشهد في مصر الآن يدخل -بحسب تقديري- في الطور الثاني للثورة التي اندلعت في 25 يناير عام 2011م.. في الطور الأول مارس المصريون ترف التحزب، دون قواعد على الأرض، فقد أقاموا أحزابهم في فضاء الثورة، إلى أن داهمتهم النتائج، باكتساح قوى الإسلام السياسي، لمقاعد البرلمان، ثم لقصر الرئاسة، وبينما كانت القوى التي قادت الثورة، تواصل «مليونياتها» في ميادين مصر، كانت قوى الإسلام السياسي مشغولة بإحصاء عدد المواقع التي لم تتسلمها بعد؛ فيما يسميه المصريون «الدولة العميقة»، ثم بالتركيز على الاستحواذ على تلك المواقع، التي قدّرتها بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين بأكثر من أربعة عشر ألف موقع قيادي. في الطور الأول للثورة، شهدنا طوفان تحزب، قاد إلى ولادة كيانات سياسية هشّة وعاجزة، وأذكر أنني تابعتُ حوارًا بين أحد الناشطين السياسيين بعد شهرين فقط من الإطاحة بالرئيس السابق مبارك، وبين أحد مؤسسي تلك الأحزاب الجديدة، كان المؤسس يشرح فكرته، ويدافع عن صيغة تجمع رموزًا على يسار الليبرالية، برموز على يمين اليمين الديني، وكان يقول بالحرف الواحد: «اعتبرها صيغة (كومبو)» في إشارة إلى أسلوب بعض مطاعم الوجبات السريعة في تقديم وجبات»كومبو» تشمل الحار والبارد، والحلو واللاذع، ضمن صفقة واحدة. هكذا.. ظهرت في مصر في الطور الأول للثورة -قبل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية- أحزاب «كومبو» يلتقي فيها الشامي بالمغربي، تحدوهما معًا الآمال في الخروج برؤية واحدة وقرار واحد إزاء معضلات وطن عند مفترق طرق.. صيغة «كومبو» ربما كانت محتملة في مرحلة تقتضي احتشاد قوى الثورة على اختلاف مشاربها خلف مطلب «الهدم»، لكن هذه الصيغة لا يمكن أن تستمر في الحياة عندما يتعيّن على كل طرف أن يطرح رؤيته لمرحلة إعادة البناء، ولهذا كان طبيعيًا، أن تخفق القوى الحزبية الوليدة، في مصارعة تنين الإخوان المسلمين، الذي كمن تحت الأرض لأكثر من ثمانين عامًا كان خلالها يُطوّر أدواته ويشحذ أسلحته بانتظار تلك اللحظة.. في الطور الثاني للثورة، والذي يجري الآن مهمومًا بكتابة دستور للثورة، وبالاستعداد لانتخاب برلمان جديد، عادت الجماعات السياسية والأحزاب الصغيرة إلى محاولة لملمة الشمل وتصحيح الخطايا، وشهد الأسبوع المنصرم وحده، ولادة تكتل حمل اسم «المؤتمر» انضم إليه -حتى الآن- أكثر من عشرين حزبًا، واختير لرئاسته عمرو موسى المرشح الرئاسي السابق، كما شهد بروز تجمع آخر تحت اسم «الأمة المصرية» ضم عددًا من الأحزاب «المدنية»، ثم خرج حمدين صباحي المرشح الرئاسي السابق إلى ميدان عابدين مستعيدًا مشهد عرابي في مواجهة الخديوي، ليدشن «التيار الشعبي المصري»، أما محمد البرادعي فقد أصبح أول رئيس لحزب الدستور، فيما نجح الداعية عمرو خالد في تأسيس حزب برئاسته تحت اسم «حزب مصر»، بينما شكّلت قوى اليسار المصري تكتلًا سياسيًا آخر، فيما حشد الناصريون قواهم خلف تكتل يضم ثلاثة أحزاب ناصرية. التكتلات السابقة، هدفها الحقيقي هو عدم تمكين قوى الإسلام السياسي من الحصول على أغلبية بالبرلمان القادم، أما شعاراتها المعلنة فتبدو وكأنها واحدة، جميعهم يرفعون شعارات الثورة «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، غير أن ما قاد في الطور الأول للثورة، إلى ظهور أحزاب وفق صيغة «كومبو» تبحث عن بناء الحشود بأكثر مما تسعى لصياغة الرؤى، يقود مجددًا في الطور الثاني إلى بروز تيارات» كومبو» أيضًا، تجمعها الرغبة في إزاحة الإسلاميين، ثم تتفرّق الرؤى بينها فيما يلي ذلك من خطوات.. ولأن التكتلات الجديدة «كومبو»، فإن زعاماتها لا تملك إلا أن تكون «لايت» أو «دايت» بحسب مقتضيات الحال، فتفويضها مقيد بحدود المهمة التي تنحصر في إزاحة الإسلاميين أو تقليص مكاسبهم، ونجاحها مرهون بتحقيق هذا الهدف وحسب.. مشكلة قوى الإسلام السياسي التي ربحت البرلمان وسيطرت على الرئاسة، أن أداءها لم يكن عند مستوى طموحات من صوّتوا لها بقلوبهم قبل عقولهم، وأن حجم المشكلات التي تعاني منها البلاد تحت حكمهم، يتجاوز الآن بكثير، حجم ما ورثوه من مشكلات عن النظام الذي أطاحت به الثورة، وهذا ما يُثير مخاوف جماعة الإخوان وحزبها «الحرية والعدالة»، ولعله يُفسِّر سبب انزعاجهم الشديد من أحكام قضائية متوالية تُؤكِّد على حتمية حل البرلمان القائم، ف»الجماعة» تخشى أن تفقد في الانتخابات المقبلة، أغلب ما اقتنصته في الانتخابات السابقة، وهى الآن بصدد امتحان لم تستعد له، أو أن أدواتها لخوضه مازالت بحاجة إلى تطوير، لا تعينها عليه الحوادث، سواء في سيناء، أو في الداخل.. في الطور الثاني للثورة، تواجه مصر استحقاقات أكثر صعوبة، وتواجه القوى السياسية -دون استثناء- تحديات حقيقية، لكن نتائج الصراع السياسي في الطور الثاني، قد لا تُؤثِّر على شكل الحياة في مصر وحدها، لكنها سوف تحمل آثارها، وفق قانون «الأواني المستطرقة» إلى جوارها الإقليمي، الذي يتابع بوعي ما يدور على أرضها ساعة بساعة. [email protected]