أمام الإشارة الحمراء، بين السيارات الواقفة، كان يتسلل بخفةٍ ورشاقةٍ في إثر الزبائن المحتملين. يرتدي ثوبًا أخضرَ اللون، ويعصب رأسه بشالٍ كُتبت عليه عبارة (الوطنُ في قلوبنا)، وبضاعته من أعلامٍ وصورٍ ولافتاتٍ... العاملُ الأجنبيُّ يبيع (الوطن) على الرصيف. معظم زبائنه من الشباب، الذين سيعتبرون المناسبة فرصة للخروج من نوافذ السيارات، أو فتحات سقوفها.. حفلة تنكرية أخرى للتعبير عن حب الوطن، الذي قد يصل حد الجنون (هل هو حب فعلي للوطن؟).. سيردد الطلاب الأناشيد في المدارس، وستلقى الكلمات العذبة والرنانة في كل مكان.. حتى أولئك الذين يتحفظون دومًا على كل لحظة فرح، سيجدون ما يسرهم: أربعة أيام من الكسل اللذيذ، والأحلام العذبة.. سيعتبرها البعض مناسبة للمشاكسة، والتنفيس، أو الاستعراض، وسيعتبرها البعض الآخر فرصة (للإنكار)، والسير ضد عقارب الساعة، ولكن في كل الأحوال، نحن لا زلنا في طور اللافتات والشعارات. لم يرتقِ الوطن بعد لدينا إلى مرتبة الأم من الأبناء. لم نشعر حتى الساعة أن هذا الوطن الفسيح، والممتد من البحر إلى البحر، ومن الأرض إلى السماء، هو حضن نستطيع أن نخبئ فيه أحزاننا وتعاساتنا، وليس مجرد حبات من رمال.. لم نصل إلى الحد الذي نبكي فيه على صدره، كما يبكي الابن المتعب والخائف على صدر أمّه، أو أبيه. جلّ الأغاني التي غنيناها، والقصائد التي كتبناها، والكلمات التي ألقيناها، والمناسبات التي أحييناها.. لم ترتفع بعد إلى المعنى العميق والغامض والساحر للوطن: ذلك التراب الذي أنبتنا أطفالاً، وتلك الحفرة التي ستؤوينا (بعد عمر طويل أو قصير) إلى الأبد. لا زال الوطن لدى الكثيرين منا قبيلة، أو وظيفة، أو واسطة.. لم نتعلم كيف نحبّه من غير منفعة أو حساب بنكي.. (حب للحب) وليس لسبب آخر. شيء ما لايزال يحول بيننا وبين أن نهيم به كما يهيم العشاق بالنجوم.. ننتظر ذكراه، كما ينتظر طفلٌ أباه القادم من سفر بعيد!