حين كانت بيوت الحارة المتواضعة تلتف حول بعضها كان الجيران يحتضنون بعضهم ، و يتقاسمون كل الأحداث و الظروف بل و أبسط الأشياء ، كان الحدث الجميل في أحد البيوت تتردد أصداء فرحته في كل المنازل و لذا كانت الفرحة أكبر و أطول مدى، و كان كل منزل يذرف دموعه لحدث حزين ألمّ بجار يسكن أقصى الحارة و لذا كان الحزن أصغر و أقصر ، إذ كل جار يقتسم مع المصاب جزءا من ألمه حتى لا يبقى جاثما عليه وحده ، كان الجيران يرون بعضهم كل يوم ، يلتقي الرجال على الدكة أو المركاز أحدهم ، و كذلك كانت الجارات يطفن يوميا على بعضهن ، و كانت وجبة العشاء تتضمن أطباقا من عشاء الجيران ، ولم يكن ثمة خدم و سائقون وكانت الحوائج مقضية و البيوت مدارة و الأطفال يبلون حسنا في مدارسهم على أمية أهاليهم ، وكان الشباب يحترمون كبار الحارة و يقيمون لعتبهم وزنه المستحق فلا يرتدون ما يجعلهم عرضة للعتب و اللوم . اليوم اتسعت المدن و انتشرت الأحياء ففرقت الجيران و لم تبق على شيء من ماضيهم إلا ما يتحسرون عليه حين يلتقون مصادفة كل عشر سنوات ، ولا يملكون إزاء ذلك إلا التسليم - بكل تأكيد - لما تحدثه هذه التغيرات الجذرية على نمط الحياة و تسارع إيقاعها و ازدحام الطرق و هي عناصر تتشارك اقتراف جعل التواصل الاجتماعي أمرا ثقيلا مستهلكا الجهد و الوقت و تزيد التقنيات من الإمعان في إبعاد الأجساد و القلوب عن بعضها ، لتحل رسائل الهاتف الجوال محل قبلة الرأس ، و رسالة البث الخلوي محل صلة الرحم و أخذهم بالأحضان ، و رغم أننا ندرك أن البدائل لا تفي بمتطلبات النفس لتلبية حاجاتها الاجتماعية و تحقيق رضاها و بعثها على العمل و الإنتاج ، إلا أننا نستمر في دخول الدوامة و نحن نملك الخروج منها و لو نسبيا . ندرك جميعا أننا شركاء في مسؤولية تفكك العلاقات و ارتكاب التباعد و قطع الأرحام ، ونتفهم كل الظروف المشتركة التي تجعلنا مع باقي أفراد أسرنا و جيراننا على نحو بعيد ، لكننا لا ندرك هل كان حتميا ألا يتضمن التخطيط للحي الراقي فرص الألفة و المودة ، حيث صارت أكثر الأحياء رقياً هي الأحياء التي تبلغ المسافة بين الجار المقابل أكثر من ثلاثين مترا ، و السور بين الجار الجنب أكثر من خمسة أمتار ، و حين يلتقون تبقى تلك المسافات في حواراتهم حاجبة الحب في الله و التواد و التراحم و لا تستطيع أن تكون أطول من ملابس المراهقات التي تزداد قصرا عاما بعد عام ، و لم يعد أحد يحفل بعتب أحد ، و لا يقيم لما يسمونه الذوق العام أو العادات وزناً . الفواتير الاجتماعية التي يتكبدها المجتمع بانتقاله للأحياء الراقية و الحياة المدنية المليئة بالتقنيات باهظة التكاليف و المتوغلة في كل التفاصيل ، صنعت البعد بين الكبار وقطعت خطوط الاتصال بين الأجيال فسهلت هجرة الشباب و هم بين أهليهم و غرست في وجدانهم الولاء للعادات الغربية وتفلتوا من مجتمعهم و عاش أغلبهم جسدا وروحه مسافرة عبر القارات ، لا يرتبطون بأقرب الناس فكيف يشعرون أن في الجوار جاراً ؟ اليوم من منا يعرف جاره ؟ ومن منا يشارك جاره الفرح أو الحزن ؟ من منا يأمن على منزله لأن جاره موجود ؟ من منا يأمن على بناته من أولاد الجيران الذين شارك في تربيتهم و يعرفهم كما يعرف أبناءه ؟ من منا استطاع الحفاظ على حنو نظرته ودفء أحضانه وسط هذا الصقيع العاطفي و التباعد الاجتماعي ؟ من منا يدرك الضرائب التي نتكبدها جراء هذا التباعد و يقرر إعادة ترتيب أولوياته ليجعل التواصل و البر ضمنها ؟ من منا يتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) فيقرر اليوم و ليس غدا البر بجاره ؟ [email protected]