نسف التخطيط العمراني الحديث الإرث الجميل الذي كان يميز مدننا وقرانا،من خلال التواصل الاجتماعي، الذي مارسه الأجداد والآباء،واصبحنا نحاط بسياج خرساني،لانبرحه الا عبر المركبة أو اليها،الأمر الذي طوى معه التواصل الاجتماعي، وفقدت أحياؤنا وشوارعها وأزقتها أنسنتها سوى من عمال يمترونها لنظافتها أو لنظافة السيارات، وفقدت الأحياء سكينتها، ولم يعد الجيران على تواصل، لدرجة أنه لوصال اللصوص في مسكن توقع الجارأنهم أهل البيت.. لأهمية هذه القضية وارتباطها بالتخطيط والتصميم فقد عرضناها على المستشار الدكتور مهندس خالد بن عبدالعزيز الطياش وقد استهل حديثه قائلا: العلاقه الاجتماعيه بين الجيران تكاد ان تتلاشى في وقتنا الحاضر وهذا الوضع بدأ تدريجيا وتزامن مع انتقال المجتمع السعودي من السكن في البيوت التقليدية القديمة الى البيوت الحديثة ولم يبق في الذهن الا ذكريات جيران الامس في بيت الامس وحي الامس، الآن نستطيع ان نقول انه لا يوجد جيران بالمعنى الحقيقي والذي كان وضعهم ومكانتهم في زمن مضى بمثابة الاهل تلاشت كل تلك الروابط الاجتماعية الجميلة وحل محلها نوع من الجفاء الاجتماعي وضعف التواصل بين الجيران ، ياترى ماهي العوامل التي اودت بحياة تلك العلاقة الطيبة في حياتنا ؟ هنا استعرض بعض الاسباب التي اراها من وجهة نظري سببا في فقداننا لتلك العلاقة : ادى تصميم الحي السكني بشكله الحالي الى تباعد كبير في المسافات بين الوحدات السكنية المشكلة لبنية الحي وكتلته العمرانية ويرجع سبب ذلك الى عاملين مهمين اثرا في ذلك اولهما هو فرض الارتداد من جميع جوانب المنزل وحصر المبنى في وسط قطعة الارض وثاني تلك الاسباب هو تضخم مساحة المنزل بشكل كبير ، فلقد كانت المساحات المناسبة للبيوت التقليدية تتراوح ما بين خمسين مترا مربعا الى مائتي متر مربع وبدون اي ارتداد وتضم في بعض الاحيان اجيالا ثلاثة من العائلة اما الان فأقل وحدة سكنية يسكنها زوجان لا تقل مساحتها عن ثلاثمائة متر مربع وهذا التضخم الكبير للوحدة السكنية ادى بالتالي الى تضخم الحي وتباعد مساكنه عن بعضهما واصبح التواصل بين السكان اكثر صعوبة وأقل أمنا ، ففي الاحياء القديمة كان البلوك الواحد او الكتلة العمرانية المترابطة بدون شوارع تخترقها والتي تقدر مساحتها الكلية بحوالي الفين وخمسمائة متر مربع تحتوي في الغالب مابين خمسة وعشرين الى خمسة وثلاثين منزلا اما في الاحياء الحديثة الآن فان البلوك الواحد او الكتلة العمرانية المترابطة بدون اي شوارع تخترقها والذي تقدر مساحته بحوالي خمسة الاف متر مربع فانه بالكاد يحتوي على ست وحدات سكنية فقط ، هذا التباين اوجد تباعداً كبيراً في المساكن وبالتالي باعد كثيرا بين السكان مكانيا واجتماعيا وقلل الترابط المفترض بين الجيران. تصميم الوحدة السكنية الحالي عزلها عن الشارع والمساكن المحيطة بها حيث اصبحت شوارع الاحياء الداخلية شبه مهجورة الا من عمال النظافة نهارا وامتدت تلك الصفة لتشمل المساحات حول المبنى حيث كرس الارتداد جهة الشارع والمجاورين ذلك العزل مما ادى الى تقليل التواصل بين الجيران وعزل الاحساس الصوتي والبصري بوجود الجيران فنحن في منزلنا لانشعر بان جيراننا موجودون او خارج منزلهم ولانفقدهم الا بعد مرور وقت طويل على رحيلهم وأحيانا السائق او الخادمة هم من يشعرونا برحيل الجيران لوجود تواصل بين السائقين والخادمات فيما بينهم. لقد كان لتضخم المدن السعودية بشكل فاق كل التوقعات اثر كبير في خلق مجتمع مختلف الثقافات والعادات والتقاليد مكون من مناطق متعددة كحال اغلب مدن العالم الكبرى وانعكس ذلك الوضع على سكان تلك المدن واصبح الجميع غرباء عن بعضهم كما كان للحراك السكاني السريع من حي الى اخر دور في تغيير المنازل بين الحين والاخر مما يجعل الوقت الذي يقضيه الجيران متجاورين لايساعد على تكوين علاقات تدوم طويلا. الانفتاح الكبير الذي شهده مجتمعنا خلال ربع قرن مضى في مجال التعليم والثقافة والاعلام والانترنت وسهولة وسائل التواصل بين الاشخاص ادى الى بقاء معظم الناس داخل منازلهم والاكتفاء بالاتصال الهاتفي او عبر الانترنت واصبح التواصل المكاني مقصورا في حدود ضيقه وضمن مناسبات محدودة كالاعياد والمناسبات الكبيرة مثلا. ادى احتواء المنزل على وسائل ترفيه متنوعة كالتلفزيون والفيديو والانترنت واحيانا الحديقة والمسبح الى بقاء الساكن بصورة شبه دائمة داخل محيط منزله واصبحت الزيارات الاجتماعية والتي تأخذ الشكل الرسمي تشعره بعدم الارتياح وتشكل عبئا عليه خلاف ما كان عليه المجتمع فيما مضى حيث كانت الزيارات بين الجيران هي الوسيلة المتاحة لتمضية الوقت والترفيه عن بعضهم. التطور الاقتصادي الذي شهدته بلادنا خلال السنوات الماضية اثر على افراد المجتمع وافقدهم حالة البساطة وسهولة الحياة التي كانوا يعيشونها والمرتبطة بالعادات والتقاليد وتم استبدالها باسلوب الحياة الحديثة المعقدة وتكاليفها المعنوية والمادية غير المبررة والخالية من القيم والمبادئ الجميلة التي تعود عليها المجتمع وكونت جزءا كبيرا من شخصيته واسلوبه في الحياة وفي التعامل بين افراده ، وكنتيجة لذلك الوضع فقد المجتمع العديد من خصائصه الاجتماعية الفاضلة والتي من بينها علاقته بجيرانه. ادى التباين الاجتماعي بين افراد المجتمع الى خلق نوع من الظواهر الجديدة التي تبناها المجتمع نتيجة للنقلة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها بلادنا والتي اوجدت العديد من القيود سواء في مجال التواصل او الزيارات بين افراد المجتمع وصنفت على انها نوع من الاتيكيت الحديث حيث يوصف من لايتقيد بها بانه جاهل في اصول الاتيكيت ونتيجة لذلك اصبحت هناك قيود على الزيارات في مواعيدها واهدافها ومدتها وماذا يقدم فيها ومن يستقبل من الى ماهنالك من التساؤلات اصبحت الحياة في وقتنا الحاضر مليئة بالكثير من المشاغل التي تتطلبها طبيعة واقعنا الحاضر ويكاد وقت الواحد منا لايكفي لانجاز جزء منها ساعد في ذلك واقع المدن الكبرى من تباعد بين الاحياء وازدحام مروري دائم مما يجعل الشخص يكتفي بانجاز الاهم من الاعمال والتي تستوجب سرعة ادائها تاركا بذلك أي التزامات عائلية او اجتماعية لنهاية الاسبوع والذي لايكفي بالكاد الا لراحته من عناء اسبوع عمل ونتيجة لتراكم الوفاء بتلك الالتزامات يتكون نوع من الجفاء الاجتماعي بين الاقارب والاصدقاء والجيران ادى دخول المرأة الى مجالات الاعمال المختلفة وانشغالها في معظم الوقت الى تقليل فرص التواصل بين الاسرالمتجاورة مما افقد المجتمع نواة الروابط الاجتماعية والتي عادة تبدأ من النساء وتكون هي بداية خلق الروابط بين الجيران فقديما كانت هناك زيارات صباحية ومسائية وليلية تتم بين الجارات ( المتجاورات بالمنازل وليس بالزوج ) اختفت كل تلك الظواهر بين الانشغال بالعمل والتكلف لتلك الزيارات كان لاختلاف التركيبة السكانية في المدن الكبرى دور في خلق مجتمع مختلف الثقافات والعادات والتقاليد مكون من اصحاب المدن الاصليين والمهاجرين من المدن الصغيرة والقرى المحيطة بالاضافة الى الوافدين من خارج البلاد وكل فئة من اولئك له طريقته المختلفة في التعامل بين حالة الجفاء والتواصل مع الجيران بخلاف الوضع في القرى المجاورة والتي مازالت تركيبتها السكانية لم تتأثر كثيرا بالمهاجرين او الوافدين نلاحظ عمق التواصل الاجتماعي بين الجيران كما كان عليه مجتمعنا فيما مضى.