في ساحتنا الثقافية والأدبية والفكرية تطلّ بين الفينة والأخرى مؤلّفات تحمل في ديباجتها عنوان «الأعمال الكاملة»، والتي عادة ما تكون تجميعًا لكتب صاغها مؤلّف «ما»، وصدرت متفرّقة في أوقات متباينة، ثمّ امتدت إليها يد الجمع لتحزمها بين دفتي مُؤلَّف واحد، ولعل أكثرها انتشارًا في مجال الشعر على وجه التحديد، فالدواوين التي ظهرت متفرقة، يلم «شعثها» مجلد واحد تحت ديباجة «الأعمال الكاملة».. وكلمة «الأعمال الكاملة» تسوق الذّهن مباشرة نحو اليقين باكتمال مشروع الكاتب أوالمبدع، بحيث ليس ثمّة من زيادة تُضاف، أولبنة توضع، إلا إذا رغب «الكمال» في إسقاط معناه الماثل في بلوغ الشّوط مداه، ووصول الأمر غايته بلا احتمال إلى تتميم. وعلى هذا تصبح فكرة «الأعمال الكاملة» دالّة على خروج «المبدع» من اللّعبة، وهذا أمر يمكن أن ينظر إليه من وجهين، إمّا بعامل رحيل مادي غيّب المبدع تحت التراب، وأسكت قلمه وصوته، وعند هذا تصبح فكرة «الأعمال الكاملة» أمرًا مشروعًا، بل وضروريًّا، من فرضية أنّه يمنح المتابع لإنتاج «الرّاحل» فرصة الوقوف على مشروعه ودراسته، والنظر فيه «مجتمعًا، لرسم خطّه البياني صعودًا أوهبوطًا، فوق ما له من معاني الوفاء، ورفع رايات الذّكرى. والوجه الآخر يتجلّى في انسحاب المبدع، وكسر قلمه بيده، بقناعة أنّ ما عنده قد نضب، أو إنّه قد «أكمل» ما أراد قوله بكلّ احتمالاته، ولا غاية له من بعد في الاستمرار لمجرد شهوةٍ للكتابة، وإنّما هو «تقاعد» بلغة أهل الوظائف، و»اعتزال» بلغة أهل الرّياضة. وهذا وجه يقبل التّقدير من زاوية «احترام الذّات»، بإدراكها لحجم قدراتها وإمكانياتها. فالخروج من هكذا باب خير ألف مرّة من الاستمرار في اللّعبة بخاصيّة «اللّف والدّوران»، وإعادة إنتاج ما هو مُنتج أصلاً، لتبقى «الإضافة» بهذا المعنى «كمًّا» يعوزه «الكيف»، ورقمًا مسجّلاً شمال «صفر» التقدير والاحتفاء.. وما أيسر التعرّف على مثل هذا «الإنتاج» المستنسخ، وما أهون الوقوف عليه عن النظر والتمحيص. لكنّ مثل هذا الخروج -في الوقت نفسه- لن يعدم قادحًا ومعنّفًا يستلف «سوط» القصور ليجلد به انسحاب المبدع. فالمتلقّي دائمًا على رصيف الانتظار، يستدني ويرقب ما يرفده به المبدع، فإن تأخّر استعجله، وإن آثر الصّمت والانزواء أقلق «سكينته» بمثالب الهروب، ومعايب الانكفاء. لا نحدّد بصورة قاطعة أين يجب أن يقف «المبدع»، ومتى عليه أن يكتب، ومتى تحين لحظة «اعتزاله»، فتلك قضيّة تحسمها القناعات الفرديّة الخاصّة، وإن لم تَخلُ من مؤثّرات خارجيّة، لكن يبقى أمر «الأعمال الكاملة» مفهومًا من ديباجته بنهاية زمن «اللّعبة». وعليه نرى أنّ من بقيت في قلمه بقيّة من مداد يصلح للكتابة فليبعد «إنتاجه» من محطّة «الأعمال الكاملة»، وليعفنا من مغبّة البحث في «الخيال» عن «كمال» يفتّش عن تِمامة، فلا مجال في حكم الفهم السليم لكمال يتجدد كماله كل مرّة!